
Arab
للغيرة الأدبية عقدها مهما حاول بعضهم الترفّع عليها أو تناسيها أو تخطّي عقدها في المجالس العامة أو الخاصة، أو أمام شاشات التلفزة، حتى إن تخطّتْ الأَعمار ذلك، إلا أن أنيابها تظلّ كامنةً ما بين سطورنا وكلامنا، حتى إن كنا نسير في أطراف الحدائق ما بين الورد، أو في استراحات المؤتمرات، أو لجان التحكيم، حتى وإن دخلنا في خريف أعمارنا تظلّ هناك كامنة. والحق هنا أقول، مستثنياً من تلك الغيرة ذلك الرجل اللطيف لطف الورد يحيى حقّي، وخاصّة بعد جائزة نوبل للآداب التي نالها نجيب محفوظ عن جدارة وكتابة وأدب أيضاً، وهنا أقصد أدب الرجال في المواقف التي تطلّ من طيّاتها الغيرة والحسد.
كانت أخلاق محفوظ طيبة، وحباه الله عمراً مديداً، ولم يكن أبداً في حاجة لسلاطة ألسنة الأدباء كي يدافع عن منجزه الأدبي، وخصوصاً حينما منحته الكتابة بجانب الوظيفة والصحبة الطيبة، والحظوظ أيضاً، ما يريد وأكثر. كان يمشي هادئاً وكأنه يمشي في حديقة، ولم يناصب أيَّ أحد العداء في أيّ شيء، فالرجل من بيته إلى وظيفته إلى مقهاه إلى متعه المنتقاة من دون صخب. رأس ماله المدخّر هي الروايات التي أتت لخطواته كما الهدايا، ولم يمرّ بعسر الكتابة إلا في سنوات قليلة بعد ثورة 1952 سنوات تعدّ على أصابع اليد، ثمّ عاد بتمهّله نفسه وصبره، من دون أن يناصب السياسة العداء، ومن دون أن يسير في تيّار ما تريده تماماً كما يفعل بعضهم بغشم، ظنّاً منهم أن رأس مال الكاتب يزداد لدى السلطة بمساندتها أو بالتطبيل لها. كان محفوظ أكثر ذكاءً من ذلك بكثير، وأكثر فطنةً بتقلّبات الحكم والأزمنة، وهو صاحب التأمّل الطويل في التاريخ وتقلّباته.
هو لبنة أخرى هادئة تتشابه في نقاء السريرة وصوفية المكان وروحانياته بجوار مسجد الحسين، مكان طفولته، ولا يختلف عن قطب آخر بجوار السيدة زينب هو الكاتب الراحل الكبير يحيى حقّي. القاهرة تحاط بالمحبّة من أقطاب من كل جانب مثل جمال حمدان، وحسين فوزي، والعقّاد، ولويس عوض... إلخ. كان محفوظ متمهّلاً ولا يجري وراء حظوظه، بل حظوظه هي التي تتبعه وتنتظره هناك، وخاف أن تتغيّر وتيرة حياته عن الكتابة والمقهى والصحبة وحافظ على ذلك طوال عمره، حتى جاءته نوبل، فاستقبلها الرجل بهدوئه الأول نفسه. صرخ العامّة بالفرح بمحفوظ من أول سماعهم الخبر بعفوية أولاد البلد، بلا غيرة بالطبع، بل بفرح بواحد منهم يمشي متواضعاً في الطرقات ويرونه في المقاهي، فقال سائق تاكسي على ما أذكر: "عليّ النعمة طرشقنا له 60 حجر في ليلته الحلوة"، كان لبعضهم ذلك الرأي الآخر، وانطلقت النفسيات محاولةً رمي كرسي على كلوب في فرح جاء للرجل من هناك، لا من لجنة من لجان حزب أو طريقة صوفية أو حكومة كان الرجل يطبّل لها، وكان أول من تواضع عند نيله للجائزة هو محفوظ نفسه، وقال: "لو كان من أحد يستحقّها قبلي لكان هو طه حسين أو توفيق الحكيم".
ساعتها أدركت قيمة حكمة الرجال في المواقف التي تتطلّب ذلك، وأدركت أن كثيرين، في ثنايا كلامهم المبرّأة أو مقولاتهم المغسولة بحكمة شديدة، تستطيع أن تلمس فيهم تلك الغيرة، حتى إن حاولوا قمعها، إلا أن المجالس الخاصة فضّاحة، وخاصة إذا دخلت الجوائز العالمية، رغم ندرتها (يا حسرة!) في الخط، أو الترجمات وعوائدها، وخصوصاً الترجمات التي طُبختْ ليلاً بالبهارات الهندية في الملحقيات الثقافية الأجنبية أو الجرائد والمجلات ليلاً بمعونة الصحبة أو الشلّة، أمّا إذا كانت الجوائز تصنع بيد النخبة القريبة من السلطات، فهنا حدّث ولا حرج، أمّا لو كان الأمر يتعلّق بسفر، كي يكون الكاتب على مقربة من الغرب وهوس الترجمة أو دور النشر الأجنبية، فعند ذلك لا فائدة ترجى من ذلك الكاتب، فقد دخل مرحلةَ الإدمان، وليس له من علاج إلا المزيد، إلا ذلك اللطيف يحيى حقّي، الذي لم تغره روائح الطبيخ الخارجي أو دهون الترجمة الزائدة والتسليع لزوم التصدير للخارج، وكأنّه لم يفارق سور "أم العواجز". هو المبرّأ من الغيرة تماماً، وخاصّة حينما قال في حقّ نجيب محفوظ فور نيله نوبل: "لا ينبغُ كاتب إلا إذا رأيته أحياناً يضحك ضحك نجيب محفوظ". وختم: "ومسك الختام أقول: يا نجيب، أنت تحسّ معنا جميعاً بفضل التحامك بأمّتك مذ كنت، أن هذه الجائزة هي كاشفة غير منشئة لقرار إجماعي من شعبك بأنك تستحقّ هذه الجائزة".

Related News

عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
alaraby ALjadeed
21 minutes ago