عامان على إبادة غزة... عشرات آلاف النازحين بلا سند حقيقي
Arab
2 hours ago
share
لم تكن أوامر الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء مناطق قطاع غزة طوال أشهر العدوان الماضية بهدف الحرص على عدم تعريضهم للخطر، بل كانت خطوات ضمن سياسة التهجير القسري الممنهجة لتفريغ القطاع من سكانه. في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، أصدر جيش الاحتلال أوامر إخلاء لسكان محافظتي غزة والشمال، طالبهم فيها بالتوجه نحو مناطق وسط وجنوبي القطاع، بذريعة "ضمان سلامتهم"، بينما في واقع الأمر، كانت تلك الخطوة إيذاناً بتدشين موجات النزوح الجماعي غير المسبوقة، والتي شملت مئات الآلاف ممن تركوا منازلهم تحت القصف، من دون توفير مأوى، ومن دون ضمانات بالعودة، في محاولة للضغط على الشعب الفلسطيني وفصائل المقاومة على حد سواء. ورغم انتقاد منظمات حقوقية دولية ودول لسياسة إجبار الفلسطينيين على النزوح، ووصف ذلك بأنه "إجراء غير قانوني"، و"عقاب جماعي"، واصل الاحتلال الإسرائيلي طوال السنتين الماضيتين تنفيذ خططه لزعزعة تماسك النسيج الاجتماعي، وإحداث عشرات المشكلات اليومية، من دون النظر إلى أي اعتراضات، معتبراً نزوح المدنيين جزءاً أساسياً من الضغوط التي يمارسها على المقاومة. ولم يكن النزوح جنوباً سوى البداية، إذ سرعان ما توسعت رقعة التهجير لتشمل مناطق واسعة من شمال القطاع والمحافظة الوسطى، ومع اجتياح قوات الاحتلال لمدينة خانيونس، ثم مدينة رفح، أجبر مئات الآلاف مجدداً على ترك أماكن نزوحهم إلى أماكن أخرى. تقول الفلسطينية أم أحمد عرفات (41 سنة)، وهي من سكان حي تل الهوى جنوبي مدينة غزة، إنها أجبرت على النزوح لمرات عديدة منذ بداية الحرب، وإن النزوح المتكرر سبَّب خلقَ أزماتٍ صحية ونفسية ومادية واجتماعية، كما أعدم كل أشكال الراحة والخصوصية. وتبين لـ"العربي الجديد"، أن عائلتها قررت عدم الاستجابة لأوامر إخلاء مدينة غزة التي صدرت في الأسبوع الأول من الحرب، لكنها أجبرت بعد نحو شهرين من محاولات الصمود على المغادرة بعد اشتداد القصف والحصار والمعاناة، والمخاطر التي باتت تطاول الأسرة كلها. توسعت رقعة أوامر الإخلاء لتشمل تهجير مناطق واسعة من قطاع غزة، وواصل الاحتلال طوال سنتين تنفيذ خطة زعزعة النسيج الاجتماعي وتضيف عرفات: "نزحنا نحو مخيم النصيرات في وسط القطاع، وتنقلنا في المحافظة الوسطى أكثر من خمس مرات، ثم أصدر الاحتلال أمر إخلاء آخر، فاضطررنا إلى المغادرة نحو مدينة رفح في أقصى الجنوب، وبعد تهديدنا هناك عدنا مجدداً إلى الوسطى، وذقنا خلال رحلات النزوح تلك مختلف أشكال العذاب والحرمان والإهانة والخذلان. توقعنا أن رحلات النزوح انتهت مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي مطلع العام الحالي، وعدنا إلى مدينة غزة، لكن الواقع كذّب هذا الشعور بعد استئناف الاحتلال الحرب، وإصداره قراراً جديداً بإخلاء مدينة غزة، والتوجه نحو الجنوب، وكان وقع هذا علينا أشبه بالصاعقة، خاصة بعد استنزاف الحرب والنزوح جميع مواردنا، وتوقف مصادر دخلنا". تشاركها الواقع ذاته الفلسطينية سهاد عبد المجيد، وتقول لـ "العربي الجديد": "تركنا بيتنا في حي التفاح في أول أسبوع من الحرب، بعدما أصبحت الطائرات تدور فوق رؤوسنا. حينها، قلنا إننا سنرجع بعد يومين، أو أسبوع، لكننا لم نتوقف عن التنقل طوال سنتين. ذهبنا إلى الوسطى، ثم إلى خانيونس، وبعدها إلى رفح، ثم رجعنا إلى الوسطى، ثم إلى مدينة غزة، وأخيراً نزحنا مجدداً جنوباً نحو مواصي خانيونس. سبع مرات نزوح في أقل من سنة، حتى أصبحنا نعيش على الشنطة، ولا نرتب شيئاً لأننا نعلم أن الرحيل قادم". ومع مطالبة الاحتلال مؤخراً بإخلاء مدينة غزة، ودفع الناس إلى النزوح مجدداً نحو الجنوب، يتضح أن هذه السياسة ليست عشوائية، بل منهج مدروس يسعى لترسيخ فكرة السيطرة والهيمنة، فضلاً عن ترسيخ واقع التقسيم السكاني والجغرافي، مقدمةً فعليةً لفرض وقائع ميدانية جديدة على الأرض. ونزحت غالبية عائلات غزة أربع مرات أو خمساً، وبعضهم يتحدث عن أكثر من عشر مرات نزوح منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وكلها إلى وجهات لا تتوفر فيها الخدمات الأساسية ولا أماكن كافية للإيواء، كما لا يمكن اعتبارها آمنة، إذ كرر الاحتلال مرات كثيرة قصف الفلسطينيين خلال رحلة النزوح، او في المكان الذي نزحوا إليه.   لم تعد الفلسطينية إيمان مسعود (23 سنة) ترتب أغراضها بعد نزوح أسرتها للمرة التاسعة، وقد ذاقت مختلف أشكال الإرهاق والتشرد، وانعدام الأمن والأمل. وتقول لـ "العربي الجديد": "نزحنا أول مرة من منزلنا في حي الرمال بمدينة غزة، بعد بداية الحرب بثلاثة أيام، ومنذ ذلك الوقت، انتقلنا من مكان إلى آخر، ومن مخيم إلى مدرسة إلى مركز إيواء، ومن بيوت أقارب إلى خيام، وكنا أحياناً نبيت في العراء، فكيف أكترث بترتيب أغراضي أو طي ملابسي بينما أعلم أننا قد نرحل مجدداً؟". يتحدث الفلسطيني خالد النعيزي (39 سنة) عن نزوحه العاشر بمرارة، إذ نزح من بيت لاهيا شمالاً إلى مدينة غزة، وبعدها تقطعت به السبل في محافظات الوسطى والجنوب، والتي عاود النزوح إليها مؤخراً. ويقول لـ"العربي الجديد": "نشعر بحالة متواصلة من التيه وعدم الاستقرار بفعل أوامر الإخلاء المتلاحقة. لم أكن أرغب في تكرار النزوح هرباً من قسوة العيش في الخيام، وانعدام مختلف مقومات الحياة، لكن القصف الإسرائيلي والأحزمة النارية وتكرار المجازر بحق العائلات التي تقصف بيوتها فوق رؤوسها أجبرني على ذلك لحماية أطفالي الأربعة". ويضيف النعيزي: "في كل مرة كنت أنقل زوجتي وأطفالي في ظروف أسوأ من النزوح السابق، وفي إحدى المرات، كنا نبيت في خيمة، واضطررنا إلى تركها بسبب القصف. نعيش على الفتات، ونُطرد من مكان إلى آخر، بينما يمزق كل نزوح جزءاً من إنسانيتنا". بدوره، يشير النازح من حي الزيتون يزن العلمي (52 سنة) إلى أنه لم يعد يشعر بأي نوع من أنواع الراحة أو الاستقرار، وسبَّبت سياسة الإخلاء المتكرر خلق أزمات عديدة لعائلته. ويقول: "لسنا أحياء فعلاً، ونتحرك لننجو فقط. لدي أربعة أولاد، وأنا جد لتسعة أحفاد، وجميعنا لم نستقر منذ تدمير بيتنا، وتنقلنا قسراً مرات عديدة في الوسطى والجنوب، وغابت كل أشكال الخصوصية، والرعاية الصحية، والكرامة الإنسانية. أشعر بالعجز المطلق، فالنزوح لا يعني الخروج من المنازل فقط، بل هو تفكك اجتماعي ونفسي تدريجي، وجميع النازحين فقدوا الشعور بالأمان، وانهارت ثقتهم بكل الجهات، سواء محلية أو دولية، بسبب العجز التام عن تأمين الحماية أو المساعدة". وتحولت آلام النازحين إلى أوراق تفاوضية يستخدمها الاحتلال في المحافل الدولية لترويج رواياته الكاذبة، كما يستخدمها في الميدان للضغط على الخصوم السياسيين والعسكريين، ومقايضة حقوق الإنسان بالهدنة، والمعونات بالسكوت، والعودة بالموافقة على شروطه. يقول محمد الربعي النازح من مشروع عامر شمالي مدينة غزة، إن الاحتلال يستخدم النزوح سلاحاً لتفريغ الأرض وكسر الروح، في سياسة ممنهجة اتبعها منذ الأيام الأولى للحرب، عبر تهديد السكان، ووضعهم في خيار بين ترك بيوتهم ومناطق سكنهم أو الموت. ويبين لـ "العربي الجديد": "تنقلت قسراً أكثر من 12 مرة، والاحتلال يسعى من خلال النزوح المتكرر إلى تحقيق أهداف استراتيجية، أبرزها تفريغ المناطق المستهدفة من السكان لتسهيل العمليات العسكرية، وإضعاف الحاضنة الشعبية للمقاومة بخلق حالة من الإنهاك الجماعي واليأس". ويرى الربعي أن "النزوح المتكرر يساهم في تشتيت النسيج المجتمعي من خلال التوزيع الجغرافي غير الطبيعي للسكان، في تمهيد لفرض التهجير كأمر واقع، خاصة بعد تدمير البنية التحتية للمناطق المهجّرة بالكامل، ما يصعب عودة السكان لاحقاً. أصبح النزوح روتيناً مقيتاً، وأفقد الناس الإحساس بالمكان والاستقرار، كما أنه عملية قتل معنوي بطيئة تسعى إلى إضعاف إرادة الصمود والمقاومة، عبر قاعدة أن إرهاق المدنيين سيدفعهم إلى الضغط على المقاومة لوقف القتال وفق شروط الاحتلال". وتعتبر سياسة التهجير القسري جزءاً من عقيدة أمنية إسرائيلية تقوم على استنزاف الفلسطينيين ببطء، غير أن هذا التكتيك قد أفضى إلى نتائج عكسية، إذ أعاد شحن روح الرفض الشعبي، وعمق الشرخ بين الاحتلال وأصحاب الأرض الذين لم يرفعوا الراية البيضاء رغم كل الأزمات والآلام.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows