عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
Arab
2 hours ago
share
خلال عامين من عمر الإبادة التي استهدفت قطاع غزة، عاش الصحافيون الفلسطينيون ومساعدوهم وأسرهم الواقع ذاته الذي عاشه باقي الغزيين، وإن كان العبء عليهم أشدّ وأقسى وأصعب، في ظل الحاجة إلى الاستمرار في التغطية، وفي الوقت نفسه تأمين احتياجاتهم وأسرهم، ولا سيما مع استهدافهم المباشر من قوات الاحتلال. ولم تقتصر الحرب على الدمار الذي طاول البنية التحتية أو على الأضرار الجسيمة التي أصابت المدنيين، بل شملت أيضاً هجوماً مباشراً على الصحافيين ووسائل الإعلام، ما جعلهم في قلب معركة مزدوجة: معركة نقل الحقيقة وكشف الواقع، ومعركة البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف غير إنسانية. واستُشهد خلال عامين من العدوان أكثر من 250 صحافياً وعاملاً في وسائل الإعلام، وفق توثيق المكتب الإعلامي الحكومي ومنظمات فلسطينية محلية، وأُصيب العشرات بجراح متفاوتة، بعضهم ما زال يتلقى العلاج سواء في الداخل أو الخارج. واستخدم الاحتلال الإسرائيلي قتل الصحافيين خلال العدوان سياسة ممنهجة تهدف إلى تكميم الأفواه، ومنع تغطية الحقائق التي تُظهر انتهاكاته الجسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، إلى جانب تدمير قدرات الإعلام الفلسطيني، عبر سلسلة من الهجمات المباشرة على مقرات الصحف، والقنوات الفضائية، والمكاتب الإعلامية في مختلف أنحاء القطاع. فقدت مراسلة تلفزيون فلسطين في غزة، بيداء معمر، عدداً من زملائها خلال العدوان، من بينهم الصحافي محمد أبو حطب الذي استُشهد مع مجموعة من أفراد أسرته، وتوالت بعدها أخبار استشهاد عدد من الصحافيين كان آخرهم الصحافيان خالد المدهون وحسام المصري، والمصوّر التلفزيوني الذي استهدفه الاحتلال بالرغم من اتباعه جميع وسائل الأمان والسلامة المهنية. تقول معمر لـ"العربي الجديد" إن الصحافيين العاملين منذ بداية العدوان واجهوا، إلى جانب الخطر والاستهداف، العديد من التحديات والمعوقات، وتضيف: "على صعيدي الشخصي، نزحت تسع مرات منذ بداية الحرب، وبعد تهديد مدينة غزة نزحت للمرة العاشرة، تنقلت خلال رحلة النزوح المريرة بين مختلف محافظات القطاع، وسط ظروف معيشية صعبة ومرهقة". وتلفت معمر إلى أنها أُصيبت بمرض الكبد الوبائي خلال فترة حملها ونزوحها داخل خيمة لا تراعي أدنى الاحتياجات والمقومات الإنسانية، وهو ما أثّر في صحتها. وتقول: "تابعت العلاج إلى أن تعافيت، واستأجرنا شقة صغيرة، وكانت أمنيتي الوحيدة حينها أن أضع مولودتي داخل شقة لا في خيمة". وتتابع: "بعد ولادتي بأيام، صدرت أوامر إخلاء إسرائيلية لمنطقة مربع السطر الغربي في خانيونس، فاضطررت للخروج برضيعتي، وسط ظروف صحية صعبة للغاية، واستمرت رحلة النزوح حتى عودتي إلى منزلي المتضرر في مدينة غزة، حينها شعرت بأنني عدت إلى حضن العائلة، إلا أن ذلك لم يدم طويلاً بعد صدور أوامر الإخلاء الأخيرة". وتشير معمر إلى أن العدوان تسبب لها بالعديد من العقبات الشخصية والمهنية، إذ تواجه صعوبة في المواءمة بين العمل والتغطية الميدانية من جهة، والعناية بأسرتها وأطفالها من جهة أخرى، خصوصاً في ظل استمرار القصف والخطر والحرمان، وانعدام أي مكان آمن حتى في المناطق التي يدّعي الاحتلال أنها "آمنة". وتوضح أن الطاقم الميداني يعمل بإمكانيات محدودة جداً، في ظل الانقطاع المتواصل للكهرباء، وضعف الإنترنت، والانقطاع المتكرر في خطوط الاتصالات، جراء استهداف الأبراج والمربعات السكنية، علاوة على إغلاق المعابر، ومنع دخول المعدات اللازمة لتعويض ما جرى تدميره أو تعطّله خلال الحرب. كان للنزوح الذي تعرّضت له الأسر الفلسطينية بسبب القصف المتواصل تأثيراتٌ سلبية مضاعفة في الصحافيين الذين اضطروا لمغادرة منازلهم. ووفق تقارير محلية ودولية، قُتل العديد من الصحافيين في عمليات قصف تدميرية، بينما اضطر آخرون إلى العمل من أماكن أكثر خطورة، وبعيدة عن خطوط الاتصال المعتادة. تحاول الصحافية صفاء الحسنات المواءمة بين عملها الصحافي وبين مسؤوليتها، كونها أماً ومعيلة وحيدة لأسرتها بعد وفاة زوجها، فيما تعيش ظروفاً معيشية بالغة القسوة، بعد فقدان منزلها، واضطرارها للنزوح المتكرر، بفعل أوامر الإخلاء الإسرائيلية المستمرة. وتقول الحسنات لـ"العربي الجديد": "حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية ليست كأي حرب سابقة عملت خلالها. لم أتمكن في بداية الحرب من العمل، بسبب رعايتي لأطفالي الأربعة، خاصة أننا كنا نسكن في منطقة حدودية شرق دير البلح وسط قطاع غزة، وكان القصف المدفعي العنيف لا يتوقف يومياً، فنزحت أكثر من مرة". وتضيف: "في أوائل فبراير/شباط الماضي، وبعد الهدنة، خرجت للعمل الميداني، لكن الحرب عادت، وكانت أشد وأبشع وأصعب، خاصة مع قصف منزلي واضطراري للنزوح واستئجار منزل بسعر مرتفع". وتتابع: "كنت أخرج للعمل وقلبي معلق بأبنائي خوفاً عليهم. كثيراً ما كانوا يطلبون مني البقاء معهم وعدم الذهاب إلى العمل، خشية أن أُقتل كما حدث لعدد من الزملاء". وتلفت إلى أن العمل في هذه الحرب "كمن يحمل كفنه في يده اليمنى وقلبه المعلق بأبنائه في اليد الأخرى"، وتقول: "مع كل استهداف في المنطقة التي أقطن فيها، ينخلع قلبي وأبدأ بالاتصالات للاطمئنان عليهم، وفي كل مرة يحدث قصف في المكان الذي أعمل فيه تنهال الاتصالات من أبنائي خوفاً عليّ". وتوضح الحسنات، وقد بدت ملامح الإرهاق على وجهها، أن هذه الحرب "دمّرتنا نفسياً ومعنوياً ومادياً"، وتضيف: "لا أتمنى سوى الخلاص والنجاة ووقف الحرب في أسرع وقت ممكن". ويواجه الصحافيون الفلسطينيون حالة من عدم الاستقرار الشخصي، إذ فقد كثيرون منازلهم بسبب القصف، واضطروا للعيش في أماكن غير آمنة، أو في مخيمات مؤقتة، ما يزيد من صعوبة الأداء الصحافي، إذ يجد الصحافي نفسه بين واجب نقل الحقيقة، وضرورة الحفاظ على حياته وحماية أسرته. تعرّض الصحافي الفلسطيني أسامة العشي لإصابة خلال تغطيته الميدانية، خضع على أثرها للعلاج، إلا أنه يرى أن الندوب النفسية أشد قسوة من الجراح الجسدية، وأن العدوان وأوامر الإخلاء والنزوح خلقت حالة متواصلة من التيه والتعب. يقول العشي لـ"العربي الجديد": "الظروف التي نعيشها نحن الفلسطينيين في قطاع غزة غير معقولة ولا يمكن احتمالها، في ظل تواصل القصف والخطر والاستهداف المباشر، وتهديد حياة الناس وأمنهم، وحرمانهم من أبسط الحقوق الإنسانية والمعيشية". ويلفت إلى أنه لم يستجب لأوامر إخلاء مدينة غزة في بداية العدوان، فعاش فصول الجوع والمعاناة والخطر برفقة أسرته، قبل أن يُجبر مؤخراً على النزوح نحو الجنوب بفعل التهديدات الإسرائيلية المتواصلة. ويؤكد أن النزوح هو المشكلة الأصعب بالنسبة للصحافيين، إذ يُجبرهم على ترك بيوتهم ومناطقهم وميدانهم الأول نحو آخر مجهول، ويقول: "النزوح المتكرر يصيب الصحافي بحالة من التشتت الذهني الدائم، يحاول المواءمة بين تأمين عائلته ومواصلة عمله، وهذا استنزاف لا يُحتمل". ويصف اللحظات الأولى لنزوحه برفقة عائلته بأنها "صعبة للغاية"، ويضيف: "نعيش ظروفاً مهنية ومعيشية غاية في القسوة. أحاول تأمين أسرتي ومواصلة عملي، وهذا أمر شاق جداً. الوقت هنا يمرّ ببطء وبألم". وتسبّبت هذه الظروف المعيشية القاسية بضغوط نفسية متزايدة على الصحافيين الفلسطينيين الذين فقدوا زملاءهم في الحروب السابقة، وأصبحوا يواجهون تهديدات مستمرة لحياتهم وحياة أسرهم، مما خلق بيئة عمل غير مستدامة، حيث أصبح نقل الحقيقة التحدي الأكبر وسط الخوف من الاستهداف. ويقول الصحافي، عبد الله التركماني، إن العدوان، الذي يدخل عامه الثالث، أدى إلى حالة مستمرة من النزوح وعدم الاستقرار والخوف والقتل والتدمير، سواء على صعيد العمل أو على الصعيد الشخصي. ويضيف التركماني لـ"العربي الجديد": "من الصعب المواءمة بين مواصلة التغطية الميدانية للأحداث والأزمات وبين الخوف المتواصل على العائلة التي تنزح من مكان لآخر، وسط انعدام مختلف مقومات الحياة الطبيعية، واستمرار القصف الذي لا يهدأ". ويشير إلى أنه حاول ترميم منزل العائلة المتضرر بعد عودته إلى غزة، إثر اتفاق وقف إطلاق النار في يناير الماضي، "لكنني لم أهنأ في منزلي سوى شهر واحد، إذ أُجبرت مجدداً على النزوح بعد قرار الاحتلال إخلاء المدينة". ويتابع: "لم أكن أرغب في النزوح مرة أخرى، لكن إصابة طفلتي واضطراري للانتظار ساعات طويلة لعلاجها من جرح بسيط في أنفها غيّر رأيي، خصوصاً بعد أن طُلب مني شراء الغرز واليود وقطع الشاش بنفسي. حينها تأكدت من الانهيار التام في المنظومة الصحية". ويضيف أن الصحافيين يعانون أيضاً من نقصٍ حاد في الإمكانيات، في ظل غياب التعويض عن الأدوات والمعدات وأبراج الإرسال المدمرة، ويقول: "أكتب تقاريري على هاتفي المحمول بعد تعطّل الحاسوب، وهذا يستنزف وقتاً وجهداً هائلين". وجد الصحافيون الفلسطينيون أنفسهم في ظروف مهنية شبه مستحيلة، فبعد فقدانهم أدواتهم الإعلامية، واجه العديد منهم صعوبات كبيرة في الحصول على معدات جديدة، بينما فرض الاحتلال قيوداً صارمة على دخول الأدوات الإعلامية، مما أجبرهم على العمل بالوسائل البدائية والشخصية. يؤكد عاهد فروانة، أمين سر نقابة الصحافيين الفلسطينيين، أن العدوان أثّر بشكل كبير في عمل الصحافيين، بفعل تواصل "الإبادة الإعلامية" التي تستهدفهم، من خلال القتل والقصف والتهجير وتدمير المقار والمعدات. ويقول فروانة لـ"العربي الجديد" إن الجرائم الإسرائيلية المتواصلة انعكست بشكل صارخ على الصحافيين، وقد راح ضحيتها أكثر من 250 صحافياً وصحافية وعاملاً في المجال الإعلامي، إلى جانب إصابة واعتقال المئات منهم، في واقعة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة العالمية. ويلفت إلى أن حالة النزوح المتكرر التي عاشها الصحافيون أثرت فيهم بشكل كارثي، إذ اضطروا للعمل بعيداً عن أسرهم التي تعاني كبقية العائلات الفلسطينية من الخطر والنزوح والخوف ونقص مقومات الحياة كافة. ويشير فروانة إلى أن معدات الصحافيين دُمّرت أو تقادمت بفعل طول أمد الحرب، ومنع الاحتلال إدخال الأجهزة والمعدات أو حتى قطع الغيار، ما انعكس بشكل كبير على أدائهم المهني. ويختتم بالقول: "الصحافي الفلسطيني يعيش مأساة مضاعفة، لأنه مستهدف وملاحق ويعيش النزوح، بينما يعمل بأدنى الإمكانيات، بلا كهرباء أو إنترنت أو وقود".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows