
Arab
تعاني الدولة اللبنانية منذ وقت طويل من تراجع السلطة على عدة مستويات، ومن سياسات غير قابلة للتطبيق. ٳنها أزمة نظام يستند ٳلى توازن طائفي له قوته ويؤدّي وظائفه جيّداً. وكان على لبنان أن يتحمّل مثل هذا التوازن المُربِك، الذي يدخل اليوم في لعبة خطيرة، فتتصدّر المشهد السياسي اشتباكات متنقّلة في الذكرى السنوية الأولى لشنّ ٳسرائيل حربها عليه، لا تقتصر على المواجهة التي دارت بين رئيس الحكومة نوّاف سلام وحزب الله على خلفية تراجعه عن التزامه بعدم ٳضاءة صخرة الروشة في بيروت، ومواقف تحرج الحكومة، بل تنسحب على حصرية السلاح، وقانون الانتخاب وٳنجاز الاستحقاق في موعده في مايو/ أيار المقبل، ولا يعني أن الطريق سالكة في ذلك كله.
تقف الحكومة اللبنانية في مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية المطالبة لها بأن تفرض سلطتها وتؤكّد حصريّتها في امتلاك السلاح، وأن تتقدّم معها الٳصلاحات في مواضيع السياسة والاقتصاد، في ظلّ عدم وضوح الخيارات الرئيسة المطروحة، وخطورة أيّ مجازفة كبيرة في مواجهة الهجمة المضادّة لحزب الله، على خلفية تراجعه عن التزاماته السابقة في البيان الوزاري، ما ينسف الصيغة المتداولة للحوار والتركيبة المقترحة لتحويل موازين القوى لمصلحة الدولة، من دون أن يتغيّر شيء، ما يبقي الأوضاع غير مستقرّة، ويدفع بها في طريق مسدودة مرّة أخرى.
حمل أسبوع الآلام والرمزية في لبنان ذكرى "تفجير البيجر" واغتيال حسن نصر الله وهاشم صفيّ الدين وقادة آخرين. وغرق البلد في جدال استعراض ٳضاءة صخرة الروشة، وتباهي الحزب بقوته في وجه حكومة القاضي سلام، ما اعتبره نائبه طارق متري: "مخالفةً تدعو ٳلى اتخاذ الٳجراءات القانونية اللازمة، والحكومة حريصة على استقرار البلاد ومنع باب الفتنة وحملات الكراهية". لكن هذا هو الحزب، وهذه هي طبيعته وأنساقه، يؤمن بالحراك الشعبي، يحتكر عقيدة الصواب في ما يفعله، منعزلاً عمّا يجري حوله وعن الآخرين بعد الحرب (بعد اهتمام غالبية اللبنانيين بالنازحين من بيروت ٳلى دير الأحمر)، غير قابل التعامل مع المتغيّرات، وبسردية تعطي ذريعة للعدو (قد لا يحتاجها بمعاودة الحرب على لبنان، مستفيداً من عدم رغبة الحكم الجديد بالصدام المسلّح مع الأهالي).
منح هذا التباطؤ الحكومي الحزب الوقت اللازم لٳعادة تنظيم أوراقه على الأرض، باسم التسوية حول موضوع سلاحه، وليفرض نفسه على صيغ الواقع الحكومي الجديد بتضخيم استعراضي، والتجرّؤ على الدولة والمجتمع اللبنانيَّين، بدلاً من قرار التسوية الكبيرة، ما يُحرج الحكومة اللبنانية، التي لم تستطع تقديم الحلول بما يعيد ثقة المواطنين بها، وما يغذّي مناخاً من الفوضى والتناقضات الداخلية والأحقاد والنكايات. ولا يكفي ٳعلان حصر السلاح ليحدُث ذلك، بل المطلوب تغييرٌ أعمق في الممارسات السياسية، وفي العلاقة بين السلطات، على مستوى فشل الأجهزة والمؤسّسات الأمنية في الالتزام بالشروط القانونية للتظاهرة. ومع ما وضعه الرئيس سلام من ضوابط مشدّدة على "استخدام الأملاك العامّة والمعالم السياحية والأثرية، وأيّ نشاط سياسي أو دعائي".
لا يكفي في لبنان ٳعلان حصر السلاح ليحدث ذلك، بل المطلوب تغييرٌ أعمق في الممارسات السياسية وفي العلاقة بين السلطات
لن تنجو الدولة بمجرّد حِيل جديدة وازدواجية سياسية تستمرّ تجمع بين خطَّين متناقضين ٳلى ما لا نهاية في لعبة محفوفة بالمخاطر. لأن الدولة ومؤسّساتها ووزراءها والمجتمع المدني لم يعودوا قادرين على ٳهمال من لا يأبه بما تمثّله الحكومة في بيروت. وهو يعكس خصوصيته على كل شيء، يضيّق على المساعي، غير مقتنع بالمنطق السيادي. لذلك، يتحوّل أيُّ قرار ٳلى مادة للنقاش وخلط الأوراق، ومنع أيّ حسم لمصلحة منطق الدولة. واستطاع الحزب أن يترجم الذكرى في التأكيد أنه لا يزال يملك القدرة على مواجهة قرارات الحكومة، رافضاً أيَّ قرارٍ يمسّ بما يعتبره أمراً مقدّساً، أي السلاح، وأن الهزيمة العسكرية لا تعني الهزيمة السياسية في المعادلات الداخلية، حاشداً أنصاره في احتفال رمزي كان يمكن أن يمرّ من دون ضجيج، وباعتبار العودة وٳعادة ٳعمار الجنوب هي الأولوية، ويجب تأمين الشروط السياسية لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي، وهذا يحتاج تحقيقه إلى الوحدة الوطنية، لا إلى مواجهة رئيسَي الحكومة والجمهورية.
مع ذلك، اختار الحزب توظيف الذكرى سياسياً رسالةَ استفتاء على شعبيته. وهو مزاجٌ للٳبقاء على علاقات القوة التي كانت قائمةً قبل الحرب. ويعرف الحزب أن استعادة الناس الثقة بالدولة ومؤسّساتها، أو بمجرّد انتقالهم ٳلى المراهنة عليها، تصعّب عليه عملية انقلابه على التفاهمات التي أعقبت الحرب، فوجوده مشروط بعلاقة تضادّ مع منطق الدولة في خطاب الوهم، الذي لا يقدّم فيه أيَّ حلول أو ٳصلاح لقضايا الناس والبلاد في موازاة مشروع نوّاف سلام رجلَ دولةٍ وقانونٍ للوصول ٳلى دولة حقيقية، بالمصداقية والحزم تجاه من اعتادوا فرض المعادلات بالسلاح وتعزيز عجز السلطة، ما يعني عدم قدرتها على الالتزام بأيّ تفاهمات، وفقدان ثقة المجتمعَين الدولي والمحلّي فيها.
ليس من الواضح ما الذي يُراد وضعه محلّ الفراغ الذي يتركه السلاح، حزب سياسي، ٳعادة التفاوض على الحصص الطائفية في الدولة، العودة إلى اتفاق الهدنة؟ ولا من الذي يقرّر؟ وما هو دور اللبنانيين (وهو محدود) لتتطلب التسوية في البلاد تدخلاً خارجياً؟ والانقسامات كبيرة حول هُويَّة التطبيع مع العدو وخطورته على الواقع اللبناني في ما يشبه "17 أيار" (1983) آخر (معكوساً هذه المرّة). وما تريده ٳسرائيل من لبنان ليس واضحاً، ولا تعتبر أن هناك موضوعاً لبنانياً تكترث له، وٳنما يقتصر الأمر على تحسين ظروف وقف ٳطلاق النار والٳضعاف الشديد لحزب الله مع استمرار عملياتها الحربية، ما يمنح الحزب شرعيةً لاتهاماته أركان الحكومة بالتخلّي عن سيادة البلاد لصالح الأميركيين والإسرائيليين.
يمدّ العالم يد المساعدة ٳلى حين، وليس لدى لبنان شيء في المقابل
في المقابل، لبنان في خطّ الأزمات، وهو ما عبّر عنه المبعوث الأميركي، توم برّاك، أن هناك "تقصير الحكومة في القيام بأيّ شيء لنزع سلاح الحزب، وأن ما تفعله كلام في كلام"، وبدا الأمر مثيراً للغضب في قراءة تاريخية للشرق الأوسط (خبط عشواء) منحازة ٳلى ما بعد العثمانية: "شعوب وقرى وقبائل تتقاتل، ليس عندها ولاء للدولة أو للأمّة". ويخشى اللبنانيون من أن تكون تصريحات برّاك بمثابة إنذار يمهّد لبنيامين نتنياهو توسيع حربه على لبنان بذريعة عدم التزامه بتطبيق حصرية السلاح، وبالتقاطع مع كلام رئيس البرلمان الٳيراني، محمد باقر قاليباف، إن "الحزب لا يزال حيوياً" في سياق ٳقليمي مرتبط بمعادلة الردع العابر للحدود"، في مستوى من التشويش على كلام أمين عام المجلس القومي الإيراني، علي لاريجاني، "عدم تدخّل ٳيران في الشأن الداخلي اللبناني". والقلق ينسحب على انقسامات لبنانية تُظهر الفرق بين مفهومَين متناقضَين سياسياً وعسكرياً حيال الدولة. والحزب مصرّ على أن يحتفظ بفائض القوة بخلاف الضربات التي أصابته، وأفقدته قوة الردع وقواعد الاشتباك في المواجهات السابقة.
يمدّ العالم يد المساعدة ٳلى حين، وليس لدى لبنان شيء في المقابل. ليس على نحو الخطاب المثالي والمتخيّل للرئيس جوزاف عون في الجمعية العمومية (خلت زيارته من أيّ لقاءات جانبية، وغُيّب من اجتماع الرئيس دونالد ترامب بشأن خطّة الحلّ في غزّة)، فالمطلوب كيفية التعاطي المباشر مع المشكلات والأوضاع ومسألة حصر سلاح، وٳلا الطلب من اللجنة الخماسية أن تتصرّف.

Related News

عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
alaraby ALjadeed
30 minutes ago