
Arab
تقدم "أسطول الصمود العالمي" عبر المتوسط في محاولة جديدة لكسر الحصار على غزة حتى شارف سواحلها، ليواجه غطرسة الاحتلال الإسرائيلي. بتعبئة أوسع مما اعتمدته محاولات سابقة، وفي ظل سياق دولي غاضب من ممارسات الاحتلال في غزة، ذهب في ظن البعض أن التعامل الإسرائيلي سيكون مختلفاً لكن هل يتورع من حاصر غزة قرابة 18 عاماً، وأقدم على حرب إبادة طوال عامين، على الاعتداء عمن يحاول كسر هذا الحصار.
حيال هذا الواقع القاسي الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة، سنشعر بأن التفكير الجدي في مسألة كسر حصار غزة قد تأخر كثيراً. وإذا كنا نشاهد، مع صور شهداء التجويع، إلى أين يمكن أن تصل جريمة الحصار، فمن الوجيه بشكل عام أن نفكر كيف لا يعاد استعمال هذه الوسيلة الشيطانية في معاقبة الأبرياء، من أجل تحقيق أغراض سياسية أو عسكرية مهما تكن. فك الحصار عن غزة هو أيضاً فرصة كي تفكر البشرية في أدوات ناجعة للجم المعتدين إذا تمادوا في جرائمهم.
الأصل في الأشياء الحصار
إذا كانت الأضواء قد سُلِّطت على حصار غزة مع حرب الإبادة، فعلينا أن نعرف أن الحصار على الفلسطينيين يكاد يكون قائماً طول الوقت، في غزة وخارجها. فمع إفراط جيش الاحتلال في سفك الدماء والتجويع، لفتت الجريمة الجارية الأنظار نحو الجريمة الممتدة لعقود. وحتى لو قصرنا النظر في حدود الحرب المتواصلة، فسنجد أن عملية "طوفان الأقصى" تُقرأ من أحد المنظورات بوصفها ردّة فعل على الحصار الغاشم الذي لا بدّ أن يؤدّي إلى انفجار. وهذا المنظور مما تتحاشاه إسرائيل حيث يضرب عمق روايتها حول الحرب على غزة.
أينما ولّينا وجوهنا في فلسطين سنجد أن الحصار ماثل. حواجز وجدران واستيطان. بل قد يمتدّ بنا القول إلى كون الحصار المضروب على غزة، وفلسطين عموماً، لا تسهر إسرائيل وحدها على استمراره، إنما يدخل ضمن عناصر بنيوية للنظام الإقليمي والعالمي. أليست الولايات المتحدة الأميركية شريكاً مباشراً في حصار غزة، وذلك الفيتو الذي ترفعه واشنطن في نيويورك كل مرة ألا يدفع ثمنه آباء وأمهات بأرواح أبنائهم في رفح وجباليا؟ ولنتذكر أن بين سفينتي "مادلين" و"حنظلة" كانت قافلة الصمود المغاربية (البرية) التي انطلقت من تونس العاصمة قد توقفت في شرق ليبيا، كما أُجهضت مبادرات مصرية كثيرة، طمحت جميعها لكسر الحصار براً. وبذلك نفهم أن تحرير فلسطين يستدعي فك أكثر من حصار، خصوصاً تلك التي ألفها الناس فاعتقدوا أنها من طبيعة الأمور.
لنعترف أن البشرية لا تزال قليلة التجربة في مواجهة هذا النوع من الغطرسة. فلطالما فرض الأقوياء مشيئتهم بقوة الحديد والنار وغيرهما من وسائل القوة، فيما الأغلبية صامتة لا تملك ما تفعله لرفع مظلمة هنا أو هناك. والغريب أن المعارف هي الأخرى متواطئة في الأمر. فمثلاً، تتسم الأدبيات العسكرية عمومًا بالقصور في تقديم حلول تتعلق بتجاوز حالات الإخضاع. سنرى ذلك بوضوح حين نقارن ما كُتب حول تنفيذ الحصار وما كُتب عن كيفية كسره. فإذا وجدنا أن مُنظّراً مثل الفرنسي سيباستيان دو فوبان (القرن السابع عشر) قد اشتهر بنظرياته حول "تسيير الحصارات"، فلن تجد في المقابل منظراً معروفاً لاستراتيجيات إنهاء الحصارات. وكذلك العقول الهندسية التي اخترعت المنجنيق والرؤوس الكبشية (الناطحة للجدران المحصنة للقلاع لثقبها)، لا تضاهيها عقول تخترع أدوات مضادة، فيلتجئ المحاصرون عادة إلى وسائل بسيطة مثل حفر الأنفاق أو نقل رسائل للخارج وترقّب المساعدة.
هكذا تبدو العلوم العسكرية في معظمها خادمة للمهاجمين. أما المحاصَرون، كونهم الحلقة الأضعف، فلا يحظون بالاهتمام الكافي. ولعل للأمر سبباً معرفياً، نابعاً من مفارقة تتعلق بموضعة عملية فك الحصار ضمن الممارسات العسكرية، والتي تنقسم إلى دفاعية وهجومية. فإذا تساءلنا أين توضع استراتيجيات فك الحصار: هل تُعتبر هجومًا أم دفاعًا؟ سنجد أنها هجوم في إطار الدفاع، فوقعت في منطقة ظلٍّ بين قطبي المنظورات العسكرية.
حتى القواميس والموسوعات التي تُعنى بالتاريخ العسكري فهي تغفل فك الحصار بوصفه موضوعاً قائماً بذاته، وكأنه ليس من الحرب في شيء، بل إن بعضها لم يتطرق حتى إلى الحصار ذاته. فعلى سبيل المثال، لا يأتي ذكر لفك الحصار في عمدة كتب الأدبيات العسكرية، "عن الحرب" لكارل فون كلاوزفيتز، ولا أثر له في نصوص أنطوان هنري جوميني وقد فصّلت العمل الحربي في فروع رئيسة: الاستراتيجية، اللوجستيات، فن الهندسة، التكتيك الكبير، والتكتيك التفصيلي، ولم يتسع أيٌّ منها لمفهوم فك الحصار. فيما لم يخصّص بول دانيال رينييه مدخلاً للحصار في قاموسه للجغرافيا العسكرية. لقد أتت هذه التنظيرات (من بيئات غازية) فلن تأتي لتقدّم تصوّرات تعقّد على الغزاة الوصول إلى مآربهم.
في المصنفات العربية في العلوم العسكرية يبدو النقص أوضح، فمدخل "حصار" أصلاً غائب في "المعجم العسكري المصور"، وهو أحد أضخم المؤلفات العسكرية العربية (شريف حضري، مكتبة مدبولي 2004). الأمر ذاته يتكرر في "الموسوعة السياسية والعسكرية" لفراس البيطار (دار أسامة عمّان، 2003) التي تفتقر أيضًا إلى مدخل حصار. بينما يُذكر مدخل حصار في "الموسوعة العسكرية" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1981)، إلا أنه يقتصر على تعريف وتعداد عناصر وأمثلة دون التطرق إلى فك الحصارات.
تكاد تقنعنا هذه الفراغات في القواميس والموسوعات بأن جريمة الحصار أمر نادر في اشتباكات الجماعات البشرية، في حين أن المتأمل سيرى أن الحصار بوصفه ظاهرة حاضر في تاريخ العلاقات الدولية أكثر من الحرب نفسها. ليس له بُروزها وصداها لكنه يصاحبها، أو يهيّئ لها الأرضية، وقد يبقى بعدها، فكل استراتيجيات الهيمنة (وهي لو أمعنّا النظر من ركائز ما يُسمى فترات سلام في العالم) تعتمد بشكل أساسي على الحصار. وإن جميع الأطروحات الجيو-ستراتيجية قائمة على رؤية حِصارية، مثلاً لو نظرنا إلى جغرافية حلف الناتو (تأسس عام 1949)، في مختلف صيغه، ألم يُشكّل من أجل محاصرة الاتحاد السوفييتي فيمنعه من التمدد غرباً، ومع نهاية الحرب الباردة دُعي إلى مهمات أخرى. كما أُنشئ حلف السِنتو (حلف بغداد، 1955)، وما جغرافيته إلا خطٌّ لا تخطئه العين على الخريطة، يربط تركيا بباكستان، مروراً بالعراق وإيران، بهدف منع "تسرّب" الهيمنة السوفييتية إلى "الشرق الأوسط" جنوباً. بعد ذلك، فإن معظم الحروب لا تُخاض إلا إذا مهّدت لها الحصارات، وغير بعيد عن الأذهان حصار العراق في تسعينيات القرن الماضي وأفضى لإسقاط نظام صدام حسين في 2003. يعمل الحصار على خنق الفريسة، ثم تأتي الضربة العسكرية لتُجهز عليها.
وإذا تردّد أن لكل الحروب خسائر بشرية، يُمكن القول مع القائلين إنها جانبية، فإن الحصار إذا أطبق – خصوصاً بشكله الإسرائيلي المتوحش في غزة - تصبح الخسائر البشرية هدفاً في ذاتها، حتى تكون للضغط فاعلية أكبر.
إسرائيل بوصفها كياناً يعمل على فكّ حصاره
حين نتحدث عن استعمال إسرائيل المفرط للحصار، في حالة غزة وفي غيرها من فصول الصراع، نكاد ننسى الوضع الجيوسياسي الذي نشأت فيه إسرائيل عام 1948 وعليه بنت عقيدتها الأمنية (انظر في ذلك ورقة الباحث فادي نحاس ضمن "دليل إسرائيل العام 2020"، مؤسسة الدراسات الفلسطينية)، فالكيان الصهيوني وضعية ناتئة في التاريخ السياسي لدولة معادية لجميع جيرانها، كما تقول عبارة شائعة، وهي وضعية جعلت قادتها يعملون على فك الحصار الذي أوجدوا أنفسهم فيه أو أوجدتهم فيه المهام الموكولة إليهم (الأشغال الوسخة التي تحدّث عنها المستشار الألماني أخيراً)، وذلك عبر أدوات الحرب أو وسائل السلم. ومن هذا المنظور يمكن أن نعود إلى خطوات التطبيع التي أقدمت عليها أنظمة عربية كثيرة، من كامب ديفيد إلى "الاتفاقيات الإبراهيمية"، كعمليات فك حصار لمصلحة إسرائيل. وبذلك نقف على مفارقة؛ يوجد ذهاب عربي نحو فك الحصار على إسرائيل ويوجد عجز أو إحجام عن فك حصار غزة.
الحصار بهذا المعنى هو نتيجة لهيمنة الثقافة العسكرية في إسرائيل، وهذه الأخيرة مرتبطة بعدم وجود خيار للاحتلال سوى الحرب، والاستعداد دائما للحرب، كما بيّن المفكر العربي عزمي بشارة في كتاب "من يهودية الدولة إلى شارون: دراسة في تناقض الديمقراطية الإسرائيلية" (2005)، بسبب نشوئها في وسط كامل من الدول العربية المحيطة بها، تتفوّق في العدد والاقتصاد والجغرافية، لذا سعت إسرائيل إلى تعويض هذا النقص بتفوق محلي على الجبهات العينية. لكن الأهم من ذلك، كما يوضح بشارة، أن إسرائيل قامت بشكل ديناميكي على تعريف نفسها ومواطنيها من خلال حالة التأهب الدائم للحرب، فأنشأت مواطنيها عبر الخدمة الإجبارية وإبقاء كل فرد على استعداد دائم للاستدعاء. وهؤلاء إن لم تكن هناك حرب بالمعنى الدقيق للكلمة سيكون من الضروري اختلاقها، ويأتي الحصار كإحدى وسائل إدامة الحرب، أو الحرب بوسائل أخرى بالنسبة لإسرائيل. وبالتدريج، تحوّل الشعور بالحصار من مجرد واقع جيوسياسي إلى عقيدة تأسيسية تبرر الوجود ذاته.
وإن الحرب على غزة منذ أكتوبر 2023 يمكن أن تُقرأ أيضاً من منظور اشتغال الاحتلال على فك بعضٍ من أشكال الحصار المضروبة عليه في المنطقة، وعلى رأسها الحصار الذي ضربته تدريجياً إيران على الكيان الصهيوني، ضمن ما عُرف بمحور الممانعة: حزب الله شمالاً والحوثيون عبر البحر الأحمر، إضافة إلى إمكانية تفعيل جبهات في سورية والعراق (أضف إلى ذلك ادعاء إسرائيل أن حماس إحدى أذرع طهران في المنطقة). لذلك حين لم يحقق جيش الاحتلال انتصارات ذات زخم في القطاع، أخرج جنرالاته من الرفوف سيناريوهات حروب مبرمجة سلفاً، فانتقل لحربٍ على حزب الله في لبنان (سبتمبر 2024)، ثم ذهب إلى أبعد حد في المقامرة بمستقبل إسرائيل بخوض حرب ضد إيران في يوليو 2025.
من المنظور ذاته، يمكننا العودة إلى حرب 1967. لطالما لوّح عبد الناصر في خطاباته بضرب حصار بحري على إسرائيل تتيحه الجغرافية بما أن مصر تقابل الواجهتين البحريتين لفلسطين المحتلة في المتوسط والبحر الأحمر، فكان رفع هذا التهديد من بين دوافع الضربة الإسرائيلية على مصر، على الأقل وقتياً (تماما كما حصل مع التهديد النووي الإيراني في أيامنا)، ثم أكملت المهمة اتفاقيات السلام لاحقاً (1979) بتحييد مصر وضمان منعها من كل مناورة حصارية تجاه إسرائيل. وقد أتاحت هذه الحرب غنيمة أكبر لإسرائيل في سبيل عملها لفك الحصار المضروب عليها في محيطها، فقد ضمنت "الانحياز" الأميركي المستمر إلى اليوم وآخر فصوله مقترح "مجلس السلام" الذي اقترحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ أليس رفع الحصار عن حكومة نتنياهو أحد عناوينه البارزة.
الوعي الإسرائيلي بمسألة الحصار لم ينتج عقيدة أمنية تقوم على مبدأ الضربات الحربية الاستباقية فحسب، بل أفرز أيضاً نزعة لعكس الحصار نحو الغير. وكان الفلسطينيون على أرضهم في مواجهة مباشرة مع هذه السياسة التي تتجسّد حصاراً وحشياً في غزة، وبأشكال أخرى في بقية الجغرافية الفلسطينية المحتلة ضمن صيغٍ عديدة. وما الحصار في النهاية إلا صورة أخرى من الضربات الاستباقية، بل لعله منهج التدمير الأساسي الموجه ضد الشعب الفلسطيني، وانظر إلى ما يجري يومياً من اقتحامات واعتقالات وقتل بدم بارد، وصولاً للتنسيق الأمني.
جميع هذه الممارسات تدل على أن شعور الإسرائيلي بأنه محاصر قد انقلب إلى انشغال بتسليط فكرة الحصار بحق الفلسطينيين طول الوقت. بعبارة أخرى، لا يضمن أمان المُستوطن في الرؤية الإسرائيلية إلا خنق صاحب الأرض. هذه العقلية يحلّلها كتابٌ للباحث الإسرائيلي إيلان بابيه بعنوانٍ دالٍ "أكبر سجن على الأرض" (صادرة ترجمته العربية عام 2020 عن دار نوفل، بيروت) ويشرح فيه طيفاً من المقاربات الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطيني لم تخرج عن ثلاثية القتل، التهجير، والحصار (التضييق في الرزق، الهندسة القائمة على الفصل والمراقبة...). وبين هذه الأشكال الثلاثة من القمع يتبيّن أن الحصار هو الأقل تكلفة، خاصة إذا بقي غير مرئي، لأنه يؤمّن "إجهاض أي تهديد ممكن"، ليس التهديد المسلح وحده، بل حتى تهديد إقامة دولة فلسطينية إذا اعتبرنا ذلك تهديدا بالفعل. وحده الضغط الشعبي والدولي يمكن أن يُخرج الحصار من مربعه المريح، وفي هذا نجح أسطول الصمود، والتجارب التي سبقته، إلى حد كبير.
على اعتبار هذه الطروحات حول العقيدة الأمنية الإسرائيلية، فإن استقراء حالة الحرب الطويلة على غزة سيظهر أنها الوضعية التي تتيح للإسرائيلي تفعيل العناصر الثلاثة في نفس الوقت وإلى أبعد حد (ليس للقتل فحسب ضوء أخضر بل للإبادة الجماعية أيضاً تصريح)، وسنفهم أن إطالة الحرب ليست فقط كي يطيل نتنياهو حياته السياسية كما تسوّق المعارضة الإسرائيلية، بل لأنها تمثّل فسحة لجيش الاحتلال حتى يُسجّد على الأرض بواطن العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وإن ثلاثية قتل – تهجير – حصار التي تبدو ظاهر الأمر مخصوصة بغزة رداً على عملية السابع من أكتوبر ما هي إلا سياسة ثابتة إسرائيلياً لكن بدرجات متنوعة بعضها غير مرئي.
يمتدّ منهج عكس الحصار على الخارج إلى ما هو أبعد من خريطة فلسطين. بداية، أينما تصل قنابل إسرائيل يصل حصارها، ثم إن ما لا تقدر تل أبيب على حصاره ينوبها فيه حليفٌ؛ واشنطن أو لندن أو نيودلهي، أو حتى المنظومة الدولية بشكل عام، منها أزمات التنمية والديون التي تلاحق عدة بلدان عربية، إلى ذلك الحصار المضروب رمزياً عبر صورٍ نمطية تلصق بالعرب عبر الميديا، من الإعلام إلى السينما. وبشكل أوسع، فإن تكلفة عدم فكّ حصار غزة باهظة الثمن عربياً، إذ يعني أوّلاً استمرار سياسات عدوانية موجهة للعرب، ثم لأن أي "ترتيب" لشرق أوسط جديد (التتويج الذي تتمناه حكومة نتنياهو لهذه الحرب بخسائرها الضخمة على إسرائيل) لن يكون غير حصار أكثر إطباقاً على المنطقة العربية. فإذا كان الأمر كذلك أصبح من المهم بمكان أن نتدبّر في سؤال: كيف تُكسر الحصارات؟
في أن الحصار ليس قدراً بل نفق له نهاية
حصارات عديدة بدت مستحيلة الكسر وانتهت دون تحقيق المأمول منها. لم يتوقع أحد أن تفلت لينينغراد من السقوط في يد الألمان (من 1941 إلى 1943) خصوصاً مع الإصرار الجنوني لهتلر على سحق المقاومة السوفييتية والروح المعنوية فيها، وسيتبيّن أن ذلك الإصرار تحديداً سبب انهياره هو، وجيشه ومجمل طموحات الرايخ الثالث بعد أشهر قليلة. نظرة عابرة تظهر أن التاريخ لا يذكر عمليات عسكرية عديدة نتج عنها فكُّ حصار من الداخل. تُكسر الحصارات عادة من الخارج مع ظهور دعم يفكّها بالقوة، مثل استنفار جان دارك للفرنسيين في حصار أورليان، أو حين تحدث متغيّراتٌ تقلب المشهد الأوسع للحرب كحصار عدة مدن روسية خلال الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى احتمال تراكم الأخطاء في معسكر المحاصِرين. ولقد خسرت إسرائيل خلال هذه الحرب بسبب تهوّر قادتها أكثر من نصير سبق وأن كان جزءاً من حصار غزة، وفلسطين عموماً، كما هو الحال مع الدول الأوروبية، وقبل ذلك خسر الاحتلال تحالفات ثمينة عُقدت بهدف قلب الحصار المضروب عليه حين انغرز في المنطقة العربية إلى حصار ضد العرب، فحرص على علاقات متقدمة مع إيران زمن الشاه (حتى 1979) أو مع تركيا قبل "العدالة والتنمية".
في جميع الحالات ليست الإطالة في مصلحة القوة المهاجمة، وحده الحسم السريع يُبقي التحالفات ويغذّيها، لكن ما الذي يضمن عدم الإطالة وبلوغ الحصار لأهدافه؟ الاستسلام فقط يحقق ذلك، وبذلك فإن الصبر أهم أسلحة المُحاصَرين، فضلاً عن القدرة على الضبط الداخلي بما يتيح نفساً طويلاً في المواجهة وقدرات على المناورة الاتصالية لنقل الرسائل إلى الخارج طلباً للنجدة. ولسيناريوهات النجدة تهيّأت إسرائيل منذ أُنشئت، أي حتى قبل أن تصبح سياسات الحصار منهجية على ما هي عليه اليوم، وقد نجحت إسرائيل في مرحلة أولى بصد هذه النجدة (حرب 1948) بل عكستها لمصلحتها فكان من مخرجاتها إعلان الدولة العبرية التي بات من أولوياتها تعطيل كل نجدة عربية لاحقة، وتمّ ذلك عبر تشكيل بيئة إقليمية مليئة بالتناقضات بين الأنظمة والشعوب، وبين الأنظمة في ما بينها، وهي بيئة لم تصغها إسرائيل من الألف إلى الياء، ولكنها اعتمدت على رياح مواتية في السياقات الدولية، ذات الرياح التي ألقت باليهود الأشكناز في المنطقة، بحيث خدمَت أغراضها من ناحية عدم التضييق عليها كلما انتقلت بالحصار على الفلسطينيين إلى درجات أعلى من الوحشية والغطرسة، وقد تجد دعماً غير متوقع في هدف من أهدافها مثل حصار غزة تحديداً مع الطرف المصري (فعلياً بدأ الحصار الذي نتحدّث عنه منذ إغلاق مصر معبر رفح في 2007).
كانت لغزة محاولات في كسر الحصار من الداخل. نتذكر مسيرات العودة التي بدأت في 2018، واستمرت لأكثر من عام، وكان المشاركون فيها يصلون إلى الجدران الفاصلة بين قطاع غزة والأراضي المحتلة ويواجهون رصاص جنود الاحتلال. لم تحقق المسيرات نتائج ملموسة، لكنها نجحت في إطلاق رسائل، أقلها التذكير بحصار غزة وقد تجاوز عمره العشر سنوات، كما فعّلت مسألة حق العودة بما هي ضغط على إسرائيل، فالمتظاهرون من سكّان غزة كانوا يُذكّرون بأنهم لاجئون من قرى هجّر منها أجدادهم في 1948. لم تغيّر تلك الحركة الرمزية كثيرا في واقع الفلسطينيين داخل القطاع، وقد نُظر إليها كمحاولة من حماس لتحسين شروط الحصار لا غير، لكنها حين تقرأ إلى جانب عملية "طوفان الأقصى"، وخصوصاً مع الاستمرار فيها حتى بعدما فقدت زخمها، ستبدو جزءاً من خطة الخداع الاستراتيجي التي أوصلت إلى السابع من أكتوبر.
ليس حصار غزة غير فصل جديد من تاريخ طويل من الحصارات التي عرفتها المنطقة. وحين نذكر فصولاً أساسية من هذا التاريخ، كظهور الإسلام وصعود دُوله المتتالية أو الحروب الصليبية أو فصل الاستعمار الأوروبي، هل يمكن ذلك دون تقاطع بمفهوم الحصار بدلالاته الضيقة وفق التعريفات العسكرية (حصار المدن) أو الأكثر اتساعاً (حصار الأمم). فماذا لو قرأنا تاريخنا من زاوية الحصار؟
لقد تشكّل حول عرب الجزيرة حصارٌ غير مخطط له حين تمدّدت حولهم إمبراطوريات الفرس والروم والحبشة، فلما تهيّأت مقوّمات الأمة مع ظهور الإسلام لم يكن من الممكن دخول الزمن التاريخي دون كسر الطوق المضروب بالحرب أو بالسياسة. ويمكن النظر إلى ما سُمّي بالفتوحات الإسلامية على أنها محاولة لاستمرار حالة فكّ الحصار عن العرب إلى أبعد مدى، وقد سُخّرت لذلك معارف الأمم التي تمّت على حسابها عملية التمدّد، ومن ثمّ تسابقت دول الإسلام، من الأموية إلى العثمانية، في المضي قدماً حتى انقلب الأمر عشية القرن الخامس عشر فبدا أن التمدد العربي الإسلامي بات يشكّل حصاراً على أمم أخرى.
يمكننا عند هذه اللحظة التاريخية تغيير زاوية النظر، فمن منظور أوروبي كان العثمانيون يتقدّمون شرقاً، ولا يزال للمسلمين حضور في إسبانيا، أما البحر الأبيض فهو تحت سطوة دويلات الإسلام في الضفة الجنوبية للمتوسط. كان هذا الوضع حصاراً يمنع أوروبا من التجارة البحرية، فبضائعها تمر وجوباً من أراض وبحار تحت سيطرة المسلمين، ونعلم نحن الذين عشنا لاحقاً أن هذا الوضع قد منع الأوروبيين من كل ما سيأتي لاحقاً من ثورات في العلم والسياسة ثم الاندفاع كغزاة صوب قارات الأرض. ولقد دفع بهم الوعي بهذا الحصار إلى البحث عن منافذَ جديدة يطلون منها على العالم، وصار إيجاد طريق إلى الهند لا يمر عبر الشرق العربي هاجساً أدى إلى حركة الاستكشافات الكبرى مع كولومبس وفاسكو ديغاما وأميرغو فاسبوتشي، وما هي إلا نتيجة لتخصيب العقل الأوروبي بالمعرفة الجغرافية التي حفرت طويلاً حتى وجدت سبيلاً لفكّ الحصار العربي الإسلامي.
تحتاج الحِصارات إلى هذا النوع من المعرفة المُغامِرة كي تسقط، وإلى مقامرات فكرية حتى يُسلب المحاصِرون مقوّمات القوة التي اطمأنوا إليها. ستضيء المعرفة مشهداً واسعاً ينبغي أن يُقرأ كي تُفهم السياقات وتسخّر لإحداث تغيير، وبما أن وراء أي حصار توجد بنية مركّبة من الدعم والتواطؤ، فمن الوجيه تفكيكها أو تعريضها للتهرئة على الأقل، قبل دخول المراحل العملية من مشروع فكّ أي حصارٍ. كلما اشتدّ الحصار إلا وازداد لزوم التفكير في مخارج ومنافذ مبتكرة، وحفر أنفاق من الداخل إلى الخارج ومن الخارج إلى الداخل، وصولاً إلى النور.
أسطول الصمود يُفعّل جغرافية التضامن: البحر ضد البر والجو
إجراء الثنائية المفاهيمية حصار/فك حصار على التاريخ يقودنا إلى لحظة "أسطول الصمود"، وهو يشق طريقه عبر مياه المتوسط نحو غزة. فما نشهده لا يُفهم محاولةً لنقل مساعدات إنسانية فقط، بل تجسيداً عملياً لفلسفة مختلفة في مقاربة مسألة كسر الحصارات. اختيار البحر مسرحاً لهذه العملية يطرح تساؤلات جوهرية حول العلاقة بين السيادة والتضامن في الزمن المعاصر، وحول إمكانية وجود مساحات للفعل الإنساني خارج منطق الدولة الحديثة ومصالحها، أي في المياه الإقليمية.
منذ فجر التاريخ، مثّل البحر مساحة مختلفة عن اليابسة في علاقتها بالسلطة والسيطرة. حتى حين ادّعت الإمبراطوريات العظمى السيطرة على البحار، كما فعل الرومان مع المتوسط الذي أطلقوا عليه "بحرنا" (Mare Nostrum)، ظل البحر محتفظاً بطابعه كمجال للحركة والتبادل يصعب إخضاعه كلياً للقيود المفروضة على الأرض. هذا ما جعل طرق التجارة البحرية عبر التاريخ تتجاوز الحدود السياسية وتخترق أنظمة السيطرة، وما جعل البحر رمزاً للحرية النسبية مقابل صلابة السيادة على اليابسة.
في العصور الوسطى، تطور هذا المفهوم ليصبح أكثر تبلوراً في القانون البحري. فقد أقرت معظم الثقافات القانونية مبدأ "حرية البحار" قبل قرون من صياغته الحديثة في القانون الدولي، وإن بصور مختلفة. الحضارة الإسلامية في الأندلس طوّرت مفاهيم قانونية تعترف بالبحر كمساحة مشتركة للإنسانية، لا يمكن لسلطة واحدة أن تدّعي ملكيتها الكاملة عليها. هذا التراث التاريخي يلقي ضوءاً على الدلالة العميقة لمشهد سفن أسطول الصمود وهي تشق طريقها نحو غزة. إنها تستدعي، ربما دون وعي، هذا التقليد الإنساني الطويل الذي يرى في البحر مساحة للتضامن تتجاوز حسابات الدول وصراعاتها.
في المقابل، يمكن فهم الرفض الشعبي الواسع لمشهد الطائرات التي ألقت مساعدات على غزة من الجو، تعبيراً عن إدراك عميق لهذا التمايز بين البحر والجو. فالطائرة تتحرك في مساحة تخضع بالكامل لسيادة الدول وموافقاتها، بينما تتحرك السفينة في فضاء يُفترض أنه أكثر حرية من هذه القيود. السخط الذي رافق مشهد الإسقاط الجوي للمساعدات لم يكن عبثياً، بل نابعاً من شعور بأن هذه العملية مرتبطة حكماً بحسابات الدول وموافقة إسرائيل، مما يجعلها امتداداً للحصار وليس كسراً له.
هذا التمايز في الوعي الشعبي بين البحر والجو يعكس تطوراً مهماً في تاريخ السيادة. فبينما نجحت الدول الحديثة في إحكام سيطرتها على الأجواء بشكل شبه كامل خلال القرن العشرين، ظل البحر محتفظاً بشيء من طابعه كمساحة للحركة الحرة. هذا ما جعل الطائرة رمزاً للقوة والسيطرة، فيما بقيت السفينة، خاصة في سياق التضامن، رمزاً للحرية والمقاومة. تاريخ المقاومة البحرية الفلسطيني، من سفينة "العودة" التي فجّرتها الاستخبارات الإسرائيلية في قبرص عام 1988، إلى سفن "أسطول الصمود" اليوم، يؤكد هذا الطابع الرمزي للبحر كمساحة لمحاولة تحقيق العدالة.
في السياق الفلسطيني، يكتسب البحر دلالة إضافية كونه يمثل الحدود الطبيعية الوحيدة لفلسطين التي لم تُمزّق بالجدران والحواجز والمستوطنات. رغم سيطرة إسرائيل على المياه الإقليمية الفلسطينية، يبقى البحر أقل تشويهاً من الجغرافية البرية التي شوّهها الاحتلال. لذلك يحمل وصول سفن التضامن عبر البحر رسالة رمزية عن إمكانية الوصول إلى فلسطين "الأصلية"، تلك التي لم تُشوّه بالكامل والتي تحتفظ بشيء من هويتها الطبيعية قبل الاحتلال.
من هنا تتجاوز دلالة أسطول الصمود خصوصية الحالة الفلسطينية لتطرح نموذجاً أوسع حول إمكانيات بناء جغرافية بديلة للتضامن خارج إطار الدولة الحديثة. في عالم تهيمن عليه السيادات الوطنية وتحكمه معادلات القوة والمصلحة، يتحول البحر إلى رمز لما يمكن تسميته "جغرافية التضامن"، أي فضاء يمكن للضمير الإنساني أن يتحرك فيه بمعزل نسبي عن قيود البنية السياسية المهيمنة. لكن هذه الجغرافية التضامنية لا تقتصر على المساحة المادية للبحر، بل تمتد إلى أشكال أخرى من الجغرافية غير المرئية التي تتيح قلب الحصار إلى حصار مضاد. فإذا كانت إسرائيل تحاصر غزة مادياً، فإن أسطول الصمود ومن خلفه حركة تضامن عالمية، ينجح في محاصرة الرواية الإسرائيلية حول الحرب وتفكيك شرعيتها الأخلاقية. فبفضل تكنولوجيا التواصل الحديثة، تمكن النشطاء من خلق زخم إعلامي يتجاوز الحدود والرقابة، ومن نقل صور الدمار في غزة إلى ملايين الشاشات حول العالم، مما يخرق الحصار الإعلامي الذي تسعى إسرائيل لفرضه. هذا النوع من المقاومة يشكل حصاراً مضاداً حول الرواية الصهيونية، لكنه مرة أخرى حصار خارج حدود السيادة، حصار ينطلق من الشعوب ويعود إليها.
ليس صدفة إذًا أن يضم أسطول الصمود نشطاء من خلفيات متنوعة؛ بيئيين يحاربون تدمير الكوكب، ونسويات يقاومن الأنظمة الذكورية، وحقوقيين يدافعون عن العدالة الإنسانية، ومناهضين للعولمة النيوليبرالية التي تحوّل كل شيء إلى سلعة. هذا التنوع يكشف طبيعة النضال الذي يمثله الأسطول، فهو ليس مجرد اعتراض على سياسات دولة بعينها، بل مقاومة لمنظومة شاملة من الهيمنة تتجاوز الحدود الوطنية وتطاول الاقتصاد والسياسة والثقافة. هنا يتحول التضامن من مجرد دعم لشعب محدد إلى نضال أممي من أجل العدالة ذاتها. جميع هؤلاء يدركون أن ما يحدث في غزة ليس صراعاً محلياً، بل تجلٍّ مكثف لأزمة النظام العالمي المعاصر، وأن كسر حصار غزة يصبح بهذا المعنى رمزاً لكسر كل أشكال الحصار التي تفرضها أنظمة الهيمنة على الشعوب والطبيعة والعدالة في كل مكان.
تكشف هذه القراءة المتأنية لأسطول الصمود عن تناقض مركزي يشكّل جوهر الصراع في فلسطين: كيان استعماري نشأ على هواجس حصاره المفترض فتحوّل إلى أكبر محاصِر، وشعب محاصَر يبتكر باستمرار طرقاً لعكس الحصار وتحويله إلى أداة مقاومة. هذا التناقض لا يقتصر على الجغرافية المادية، بل يمتد إلى المعركة على المعنى ذاته: من يملك تعريف ما هو الحصار؟ ومن يملك أدوات كسره؟ وكيف تتحول جغرافية السيطرة إلى جغرافية تحرر؟ أسطول الصمود، بكل ما يحمله من دلالات رمزية ومادية، يقدم إجابة جزئية عن هذه الأسئلة: الحصار لا يُكسر بذات المنطق الذي فُرض به، بل بمنطق مختلف تماماً يتجاوز حسابات الدول ويعيد تعريف التضامن كفعل أممي خارج السيادة. إن ما فعله الأسطول، سواء وصل إلى شواطئ غزة أم لا، هو أنه أعاد طرح السؤال الأساسي: في زمن هيمنة الدول وسيطرتها شبه الكاملة على الجغرافية والجو، أين تكمن المساحات الممكنة للمقاومة؟ وقد أجاب بأن هذه المساحات موجودة في كل مكان لم تنجح الدولة في السيطرة عليه: المياه الإقليمية بوصفها جغرافية مادية، والإعلام الشعبي بوصفه جغرافية شعبية، والتضامن الأممي بوصفه جغرافية سياسية بديلة.

Related News

عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
alaraby ALjadeed
22 minutes ago