من سيأتي إلى بيتنا سوى الحرب يا أمي؟
Arab
6 days ago
share
نظّفت أمي بيتنا جيّداً، رتّبت الأرائك، مسحت البلاط، ثم أودعت في هوائه رائحةً جميلةً لم تتغيّر. كان لديها الوفير من الوقت، لتمسح الغبار، والمرايا، وتلتقط له صوراً تحفظها على سناب شات، أو ربّما ترسلها على close الإنستغرام. ليس خاصاً أن يكون لك بيت، لكنه معجزة أن يكون في مدينة تحترق. نظّفته جيّداً كما لو أنّ عيداً سيأتي غداً، يحمل الأطفال الذين يجيئوننا بعيون براقة وياقات مرتّبة كما لو أنّ عرساً سيُعقد في الصالة وغرفة الضيوف. أمي، أوّل امرأة تحزن على ورد السجاد، لأنّه مجبور أن يكون ورداً من دون أن يرى في حياته وجه السماء. وضعت على الباب ورداً، مطرةً، وثياباً ثقيلة، ونَسيت أنّ الحرب التي فجّرت بيت جيراننا، الحرب التي قتلت جارنا بيد طيار بغيض، لأنه اشترى طعام الغد لأطفاله، هي وحدها من ستدخل البيت، بجيش مدرّبٍ، ودبابات مصفّحة، تقف في طريق الورد، تشرع رصاصها، على الأغنيات، وهي في طريقها لعقد مؤتمر أخير للسلام. ليس خاصاً أن يكون لك بيت، لكنه معجزة أن يكون في مدينة تحترق نسيت أنّ أحداً لن يزور بيتنا سوى الجنود، يلعبون الكوتشينة، يشربون الخمر، وربّما يأتون بحبيباتهم، يلوّثون المقاعد والبلاط، يمارسون الحب، وبعدئذٍ يقنصون النازحين. من سيأتي إلينا سوى الحرب يا أمي، تضع يدها على مطبخكِ، وتنصّب نفسها مليكةً لأثوابك وصوركِ القديمة؟ أمي بريئة مثل نافذة، لا تفهم في السياسة شيئاً سوى أنّ أحداً عليه أن يقف في وجه القاتل مهما كان لون بشرته، وأنّ الضحية مهما كانت أصولها يجب أن تجد من يدافع عنها. لم تجبني، وضعتْ ورداً على الباب، ورداً، مطرةً، وثياباً ثقيلة، وأخبرتنا أنّها طريقة تغيظ كلّ الذين يحيلون الجنائن إلى بيادر مقهورة. أكتب يا أمي، لأنكِ تنظّفين البيت، كأنّ حرباً لم تصعد أكتافنا يوماً، كأنّنا لن نغادره غداً سنُغادر البيت يا أمي غداً، حريٌّ بنا أن نسترق الوقت في الوداع، حريّ بنا أن نحفظ صوت الحجارة ونسقي ورد النافذة، فالطريق إلى الجنوب طويلة يا أمي، الشوارع التي ترينها الآن، الأشجار ونباتات المصادفة، ستموت، كما يموت أصحابها، وربّما تصير مستعمراتٍ، تستضيف مؤتمراً يبحث حلاً جذرياً لمشكلة النفايات الصلبة. ولهذا أكتبُ يا أمي، للحظة التي ينسى فيها التاريخ أنكِ لا تعرفين النوم سوى في فراشك، وأنّ الشهداء جميعهم كانوا ودودين للدرجة التي تجعلهم يختارون لون فرشاة أسنانهم بدقّة، وأنّ على المؤسسات أن تفرد أقساماً كاملة بوظائف شاغرة خاصة بالأطفال الذين قالوا إنّهم سيصيرون أطباء، ومهندسين، وإنّ ثياب الموت كبيرة عليهم، وإنّ سياج الحياةِ بعيد عنهم. ولهذا أكتب يا أمي، لأنكِ تنظّفين البيت، كأنّ حرباً لم تصعد أكتافنا يوماً، كأنّنا لن نغادره غداً، لأنكِ مليئةٌ بالحياة والحسرة، والأمل. الأمل! أتعرفين ما الأمل؟ أتعرفين أنّ العالم عندما يفكّر في صناعة السكاكين، فإنه يذهب نحو الحقول والغابات، يلمّ الورد، ثم يطلب من بائع العطور أجمل عطر لديه، ومن بائع القلوب قليلاً من الأمل؟ عندما نطلب من العالم قليلاً من الأمل، فإنه لا يفكر إلا في السكاكين وهكذا نجد في الأسواق سكاكين براقة، ملوّنة، وموردة، نأخذها إلى بيوتنا فرحين، هانئين، وهكذا عندما نطلب من العالم قليلاً من الأمل، فإنه لا يفكر إلا في السكاكين.  نظّفت أمي بيتنا جيّداً، بذلت فيه شيئاً من حيلتها التي تخور انفجاراً بعد انفجار، قذيفة تلو القذيفة، وأنا لا أفهم يا أمي، لماذا توجّب علينا أن نمتلك بيتاً نغادره، الناس حولنا لم يتركوا شيئًا خلفهم، الناس حولنا يمشون ولا شيء خلفهم يدعوهم للالتفات. أكره بيتنا يا أمي، لأنه كان جميلاً ودافئاً وحنوناً كموقدة في برد الشتاء، وخائناً إلى الدرجة التي صار فيها عرضة لأن يتحوّل ويتبدّل، ويصير أملاً في يد العالم، عندما نطلبه يأتي إلينا على شكل سكاكين  ملوّنة موردة زاهية وحادة جداً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows