عائدو عفرين... ممنوعون من دخول منازلهم وأراضيهم
Arab
2 days ago
share
أعاد سقوط نظام بشار الأسد الأمل لعشرات آلاف النازحين السوريين من عفرين في محافظة حلب، فعاد الكثير منهم إلى ديارهم التي طردوا منها خلال عملية "غصن الزيتون" في عام 2018، غير أن الأمل سرعان ما تبدد. نزح آلاف السوريين قسراً تاركين مناطقهم ومنازلهم وممتلكاتهم في مدينة عفرين والقرى التابعة لها في شمال البلاد، ومعظمهم من الأكراد، في أثناء عملية "غصن الزيتون" تحت وطأة القصف والتوغل العسكري، وتفرقوا بين مخيمات شمال حلب ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وظل حلم العودة يراودهم لسنوات، حتى استعادوا الأمل بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، لكن عودتهم لم تكن ميسرة، إذ وجد العائدون أنفسهم أمام واقع جديد من الاستيلاء على الممتلكات والابتزاز. عاد سردار الأحمد إلى عفرين بعد سنوات من النزوح، ليواجه الطرد من منزله تحت تهديد السلاح حال عدم دفع مبالغ مالية لا يملكها، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن "سقوط النظام أشعل شرارة الأمل في العودة، وسارعنا كما العديد من العائلات إلى حزم أمتعتنا، معتقدين أن اللحظة التي انتظرناها لسبع سنوات قد حانت، لكن ما وجدناه على الأرض كان مختلفاً تماماً. بدلاً من تسلم بيوتنا، واجهنا جداراً من الرفض والتهديدات، ولم نستطع دخول البيت إلا بعد دفع ما يقارب 2000 دولار لشخص يدعي أنه مسؤول الحي، وذلك لإقناع العائلة التي تقطنه، وهي من غوطة دمشق، بالمغادرة، بينما هو وجماعته من أسكنهم فيه بالأساس". ولا تتوقف المشكلات عند الابتزاز المالي، بل تتجاوزه إلى جرائم ممنهجة لطمس حقوق الملكية، وتكريس التهجير القسري، إذ اكتشف العديد من العائدين أن ممتلكاتهم من بيوت وأراضٍ زراعية سُجلت رسمياً بأسماء آخرين عبر وثائق مزورة، أو تحت تهديد السلاح، في احتيال قانوني استغل فراغ السلطة وتعقيد الإجراءات. ومنعت كثير من العائلات من الوصول إلى أراضيها، خصوصاً بساتين الزيتون التي تشتهر بها المنطقة، والتي تشكل عماد اقتصادها وهويتها، بحجة أن "شاغليها يملكون عقود إيجار أو عقود بيع" من سلطات الأمر الواقع التي كانت تدير المنطقة، وأصبحت هذه العقود، وإن كانت مزورة أو وُقعت بالإكراه، السلاح القانوني الذي تتخفى خلفه عمليات السطو، ما يضع العائدين في مواجهة معركة قضائية معقدة ومكلفة وطويلة. قبل سبع سنوات، تركت السبعينية آشنا سيبان خلفها كل ما تملك تحت وطأة القصف، ونزحت من عفرين، وحين عادت أخيراً، وجدت نفسها في مواجهة نوع آخر من الحرب، فالأرض التي ورثتها عن أجدادها، والتي اعتزت بها طوال حياتها، أصبحت مملوكة لأشخاص لا تعرفهم بوثائق مزورة. تقول سيبان، وهي تشير بيد مرتعشة إلى بستان الزيتون: "هذه الأشجار زرعها جدي بيديه، وتحت تلك الشجرة كانت أمي تجلس بينما نلعب حولها، لكن أيادي أخرى تقطف الآن الثمار، وحولت سنوات الاحتلال السبع الماضية العلاقة بين الإنسان وأرضه من ارتباط وجداني إلى سجل عقاري مزور، ومن حق ملكية إلى تهديد بالسلاح". ولا تكمن المأساة في فقدان الأرض فقط، بل في تحولها إلى سلعة للمتاجرة. تضيف المسنة السورية: "مزرعتي وبيتي هما هويتي، ومصدر رزقي، لكني جئت لأجد غرباء يقطفون زيتون أجدادي، ويهددونني بالسلاح إذا اقتربت من البستان. لم يكتفوا بسرقة المحصول لسبع سنين، بل قدموا ورقة يزعمون عبرها أنهم اشتروا الأرض. من أين لي بآلاف الدولارات كي أواجههم في المحكمة، وأستعيد ما هو حق لي؟". ومن مدينة عفرين، يقول الباحث نورهات حسن، لـ"العربي الجديد"، إن "أبرز الانتهاكات التي تواجه العائدين هي الاستيلاء على منازلهم، ورفض إعادتها، خصوصاً في نواحي شيخ الحديد (شيه)، وراجو، وبلبلة. شاغلو المنازل يطلبون من أصحابها مبالغ طائلة تصل إلى 5000 دولار مقابل المغادرة، وهذا مبلغ خيالي في ظل الوضع الاقتصادي المزري، ولا تقتصر المعاناة على الابتزاز المالي، بل تمتد إلى الملاحقات الأمنية". ويروي حسن حادثة مؤلمة تعرضت لها سيدة من قرية "بعدينا"، طوق مسلحون منزلها، فاضطرت إلى الهرب بمساعدة أهالي القرية. وينقل عن مختار قرية "شنكيلة" توجيهه رسالة لكل العائدين بأن عليهم مراجعة المقر الأمني في القرية، ما يشكل عوائق تحول دون العودة الآمنة. ويضيف: "وراء كل هذه الانتهاكات الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، مثل (العمشات) و(الحمزات) و(أحرار الشرقية)، ورغم ادعاءات تبعيتها للجيش السوري، فإنها لا تزال تتمتع بنفوذ قوي، وتعمل كدول داخل الدولة، وأخيراً، حاول الأمن العام إخراج العمشات من ناحية شيخ الحديد، لكنه لم يستطع". ويلفت حسن: "هناك سلوك منهجي لهذه الفصائل، يتمثل بتخريب الممتلكات عند مغادرتها، إذ لا يتركون شيئاً سليماً في المنازل، ويخربون المزارع، واستناداً إلى أرقام وتقارير ميدانية، دُمِّر أو حرق نحو 39 ألف هكتار من المساحات الزراعية، بما في ذلك الأشجار المحيطة ببحيرة ميدانكي، وأشجار غابة المحمودية، وتضررت نحو 400 ألف شجرة زيتون، وكانت العمشات تفرض رسوماً على المزارعين تصل إلى 8 دولارات عن كل شجرة، وجنى المسلحون ملايين الدولارات من بيع زيت الزيتون المسروق خلال السنوات الماضية". ويوضح حسن، قائلاً: لا يزال قرابة 2000 شخص من أهالي عفرين قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، فيما نزح قرابة 300 ألف في عام 2018، ولا تزال نحو 8 آلاف عائلة نازحة في مناطق شرق الفرات. الصفة التي يتمسك بها المحتلون للمنازل هي قانون القوة، بينما لا توجد أي صفة قانونية لما حصل في عفرين، وتلك المجموعات حكمت المنطقة بقوة السلاح، وهي لا تعترف بأي قوانين. توجد محكمة في عفرين، لكن العملية معقدة، ومع تغيير تركيبة المحكمة، أصبح قاضيان فقط من أصل 11 من أبناء عفرين". ويتابع: "غالباً ما تشكل مطالبة الجهات المحتلة العائدين بأوراق الملكية الرسمية، وعدم الاعتراف بالشهود تعجيزاً للملاك الأصليين، فالغالبية فروا في عام 2018 من دون أن يتمكنوا من حمل وثائق ملكيتهم، والكثير منها فُقد خلال سنوات النزوح. في المقابل، يمتلك المحتلون الجدد أوراقاً مشرعنة من سلطات سابقة، ما يضع عبء الإثبات على كاهل الضحايا الذين يطالبون بإثبات ملكيتهم في ظل نظام قضائي هش، ومحاكم تتعامل بحذر مع الملفات العالقة مع الفصائل المسلحة التي لا تزال قوية على الأرض". ويرى حسن أنه "لا يوجد أي دور للمجتمع الدولي، وتواجه هذه الانتهاكات صمتاً دولياً مطبقاً في ظل انشغال المجتمع الدولي بترتيبات مرحلة ما بعد سقوط الأسد، وتعقيدات الخريطة السياسية والأمنية في شمال سورية، ما يشجع المنتهكين على الاستمرار في الانتهاكات". ورغم معرفتهم بالخطر المحدق بهم، فإن أهالي عفرين النازحين يعودون، ويحاولون استعادة ما سلب منهم، محولين الألم إلى فعل مقاومة يومي من أجل الحقوق، فيما تبدو السلطات المحلية عاجزة عن فرض القانون في مواجهة نفوذ الفصائل المسلحة التي تسيطر على أرض الواقع. ومن ريف حلب الشمالي، تروي النازحة مروة عرفان، قصة مختلفة. تقول لـ"العربي الجديد": "عند نزوحنا، لم يكن لدينا مكان نقصده، فعرض أحد عناصر الفصائل المسلحة علينا بيعنا منزل في عفرين بمبلغ 500 دولار، فاشتريته من دون أن أعرف أنه منزل نزح أصحابه، وأنفقت كل ما تبقى معي على ترميمه وتصليح الأبواب والنوافذ المكسورة، وعشت فيه مع أطفالي، وعندما عادت صاحبة المنزل وأظهرت أوراقها، لم أتردد في الاعتراف بحقها، فهذا منزلها، وهي أحق به". ويعد قرار إخلاء المنزل نادراً، وجاء بدافع أخلاقي وإنساني، لكنه يظل حالة فردية في بحر من المعاناة، فالأمر ليس دائماً بهذه البساطة، فالعديد من الساكنين الجدد أنفقوا مدخراتهم على شراء أو ترميم هذه المنازل، ولا يملكون سبيلاً لإيواء أسرهم، وهم أيضاً ضحايا لفوضى استفادت من حاجتهم وألمهم. وتكشف هذه القصة جانباً آخر من مأساة عفرين، حيث ضحية تواجه ضحية، فمن ناحية، يحلم السكان المهجرون بالعودة إلى منازلهم، ومن ناحية أخرى، نازحون من مناطق أخرى اضطروا إلى شراء أو استئجار هذه المنازل بأسعار زهيدة من عناصر الفصائل، من دون أن يدركوا أنهم يأخذون ممتلكات مسروقة. وتضع هذه المعضلة الجميع في مأزق أخلاقي وقانوني معقد، فكيف يمكن موازنة حق عودة أهالي عفرين مع معاناة نازحين آخرين وضعوا في ظروف لا إنسانية، وأصبحوا عن غير قصد، جزءاً من المشكلة. ولا يكمن الحل في مواجهة الضحايا بعضهم، بل في محاسبة الجهات التي سهلت هذا الاستيلاء غير الشرعي، وزرعت الفوضى، مع اتخاذ إجراءات تعوض الجميع، وتضمن حق العودة من دون التسبب بنزوح جديد.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows