
Arab
قبل أكثر من أربعة آلاف عام، وثّق شاعر أَكادي حزنه على دمار مدينته بقصيدة قصيرة، قال في أحد مقاطعها إن "قصب الألم والدموع أصبح ينبت حول حطام أَكادْ بدل الزهور والأشجار". والآن، لا تزال آثار حرب الإبادة ماثلة على الأرض، وتركت صوراً مبعثرة لا يمكن ترتيبها بحيث تمنحنا حكاية واحدة عن الذين رأوا حيواتهم تتلاشى تحت القصف وأمام الرصاص في غزة طوال عامين.
اليوم، طاول الدمار 90% من مساحة القطاع، مما يعني أنه لا مفر من معاينة الإبادة والتحديق في وجهها، من خلال قصص الذين عرفوها وجرّبوها، لا للتنقيب في الخراب بحثاً عن التعاطف فقط، بل لإعادة اكتشاف نصوص تعيد رسم ملامح الإنسان الذي حمل من الحب والجمال والرغبة في الحياة ما دفعه إلى مواجهة الموت بالكتابة، مُوثِقاً حقه في وجوده ووطنه.
لا أحد ينزح كاملاً
تمتزج اللغة الواقعية بالشعرية والأحلام والفانتازيا، في كتاب "استعادات مقلقة؛ يوميات غزّة: مائة كاتب وفنان من غزة يكتبون عن الحرب" (الدار الأهلية للنشر والتوزيع، 2025) الذي حرره الروائي والكاتب الفلسطيني عاطف أبو سيف، ويضمّ نصوصاً لكتاب وصحافيين وفنانين وباحثين من غزّة. نصوص يختلط فيها الماضي مع الحاضر، وتطغى فيها أحياناً صور الذكريات على آمال المستقبل، ولا شيء مشتركاً بين الكلمات والمشاعر والأفكار، أكثر من محاولة الحفاظ على التفاصيل، والبحث عن لحظات، مهما كانت قصيرة، لالتقاط الأنفاس وسط مطاردات الموت للناس في كل زاوية وشارع ومكان.
نشرت "العربي الجديد" 80 نصاً من نصوص الكتاب قبل صدوره
لا ينزح الإنسان كاملاً، بل يفقد كلما تحرك جزءاً منه، وأشياء مما يحب، مما يضطره إلى رثاء متكرر، "كأن يترك وراءه عشرين ألف كتاب، ويضطر لاختيار عشرة منها فقط"، في صورة تحمل سخرية سوداء تضمنها نص الكاتب حمزة مصطفى أبو توهة، الذي لن تكتفي الحرب بإبعاده عن مكتبته التي تمثل عالمه وشغفه، بل ستكمل الطبيعة هذه المهمة، بأن يتلف المطر الكتب التي ظل يحاول إجلاءها، ليكتفي أخيراً برثائها.
وإذا كانت الإبادة تلتهم صفحات الكتب، فإنها تلتهم بساطة الحياة اليومية وتفرض بفجاجة أشكالاً جديدة للقسوة لا يمكن تخيلها، كأن تضطر للنزوح وأنت في مكانك، وهو مشهد تصوره الكاتبة أسماء سلامة "جربتُ شعور النزوح داخل بيتي.. بهذه البساطة والتعقيد في آن واحد، صرت نازحة. غرفتي كما لو أنه صار لها يدان هائلتان تحتضنان تسعة عشر شخصاً بألوانهم الباهتة، وعقولهم وقلوبهم المتروكة خلفهم".
وعبر نصوص أخرى عديدة في الكِتاب، يتضح أن النزوح لا يعني النجاة بالضرورة، لأن انتقال الإنسان مضطراً تحت وطأة القصف كما شهده الغزّيون، يعني أن يختار أي جزء منه سوف ينقذ، وأي جزء سيتركه ليموت.
الحبر يغسل الزيف بدل الماء
بعض الفنانين والكتاب الذين شاركوا في هذا الكتاب استُشهِدوا، منهم الكاتب أحمد الكحلوت، والكاتب بلال عقل، والشاعر رفعت العرعير، والروائي نور الدين حجاج، والروائية هبة أبو ندى، والكاتبة هبة محمد المدهون. إضافة إلى أن بعضهم الآخر كان قد استطاع الخروج من القطاع.
وكانت "العربي الجديد" قد نشرت 80 نصّاً من نصوص الكتاب في ملف خاص، ضمن صفحة بعنوان "نصوص الحياة والحرب من غزّة"، تخليداً لمشاهدات إنسانية يرسم أصحابها ملامح واقع أكثر عمقاً، فلا مساحة تكفي للحديث عن الخراب والأمكنة التي أصبحت معالمها حفراً وقبوراً وركاماً كما يصفها الكاتب يسري الغول في نصه "عن شوارع المخيم وأشياء أخرى"، فالمرء لا يعود قادراً على معرفة إذا ما كانت الطرق تمضي به إلى الأمام أو تعود به إلى الوراء.
تكشف كل قصة ينقلها الكتاب عن تغيرات لا يمكن التقاطها من الخارج، بمعنى أن مشاهدة لقطات الحرب في الإعلام، أو الصور التي يلتقطها المصوّرون، لا تكفي لفهم ما يحصل للإنسان وهو محاصر دون أن يعرف إذا ما كان سينجو أو يستشهد. ويظهر جلياً أنه ليس لأحد أن يتخذ أي قرار في ظلّ انعدام كامل للأمان الذي يتحول إلى وهم، فيما يتقلص الزمن المتبقي للأشخاص والعائلات بعضهم مع بعض إلى مساحة "لا تكفي سوى للوداع والرحيل" بكلمات الكاتبة نادين مرتجى في نصها الذي حمل عنوان "ذكريات خارج حدود الزمن".
لا مساحة تكفي للحديث عن الأمكنة التي أصبحت قبوراً وركاماً
ومثلما يتحول الزمن إلى خدعة، إذ لا تعود الساعات قابلة لقياسه بقدر ما تفعل الآلام، فإن خدعة الانتقال من الشمال إلى الجنوب ومن الوسط إلى الشمال التي ظل الاحتلال يمارسها، هدفت بحسب النصوص إلى إيهام العالم بوجود مناطق آمنة للمدنيين، ولكنها كانت تجرّد الغزيين من سبل البقاء على قيد الحياة، فلا مأوى ولا طعام أو ماء، "خرجتُ لأبحث عن الماء، كنت قد قصدت حي الأمل، فإذ بأحدهم ينادي عليّ: أستاذ أستاذ، حازم مات". بهذه الجملة يتوّج محمد عيسى نصه عن طفل مات تحت القصف وهو يركض متلهفاً نحو أحد مصادر المياه، ليُسقِطَ القناع ويظهر ممارسات الاحتلال من ناحية، وليوثق مدى زيف كلمات الأمل والحياة ووقف الحرب، ضمن وعود لم يَفِ بها العالم.
حماية من سطوة التاريخ
إن أهم ما يجسده هذا الكتاب هو المظاهر الصادقة والتجارب الحية لكل من شاركوا فيه، والذين يمثلون أهل غزة، بأحلامهم وصمودهم وآمالهم واستشهادهم ونجاتهم، وبمعاناتهم، التي تختصرها جملة قاسية سمعناها طوال عامين، على لسان طفلة أو امرأة أو رجل، وهي: "لا أريد أن أموت رقماً، أنا لي ذكريات هنا، وكانت لي حياة".
وقد لقيت هذه الجملة صدى، وتجلى رفضها في الكتاب، كما يصوره الكاتب عز الدين شلح بوضوح: "يراودني دائماً سؤال: من سوف يروي قصصنا؟... ينسف الاحتلال في لحظة تعبك وكل ما أنجزت على مدار أربعين عاماً".
ولأن المؤرخين اعتادوا على ذكر الأشخاص الرئيسين، وشخوص التاريخ الذين يتوق الناس لتقييمهم والحكم عليهم إذا ما كانوا أشراراً أو أخياراً، محبوبين أو مكروهين، فإنه كان من الجدير هذه المرة توثيق حكايات أهل غزة. وهذا جدير بأن يشجع القارئ على اكتشاف جميع نصوص الكتاب، الذي تمرد مؤلفوه على الإبادة، وكتبوا في ظروف وحشية بالكاد توصف، وربما نجح الكِتابُ بقصد وغير قصد في تصويرها، وإعادة ترتيب الحكاية مُتجاوزاً عنوانه، فليست هذه مجرد استعادات قلقة، بل درس للعالم، يحيله إلى مراجعة نصوصه من جديد، وإعادة قراءة كلمات مثل النزوح والطفولة والأمان والمستقبل، وغيرها الكثير، حتى لا تظل قضية فلسطين مجرد شهادة على مدى التناقض بين تمنيات البشرية ووحشيتها، وحتى لا تظل حقوق الإنسان مجرد نصوص "خرافية".
