الصورة بصفتها مكاناً للعيش
Arab
4 days ago
share
في إحدى اللقطات التي تناقلتها وسائل إعلام كثيرة، تظهر طفلة فلسطينية مصابة، وهي تسأل الطبيب الذي يعالجها: "عمّو هيدا حلم ولاّ بجدّ؟"، ثمّ تكرّر السؤال: "هيدا حلم ولاّ حقيقة؟". هذا السؤال الصعب يختصر أحوال زمن الحرب الذي تتلاشى فيه المسافة بين الحياة والموت. رؤية الفتاة، بل حركاتها وملامح وجهها، وهي تلتفت نحو الطبيب، تعجز عن صَوغه الكلمات. الصورة، هنا، لا تحتاج إلى ترجمة أو وساطة لأنها تنقل الجرح العاري، التجربة الحيّة ورعبها المُطلَق: وجه طفل مغطّى بالغبار، أبنية مهدّمة، يد ممدودة من تحت الأنقاض ومجاري الدماء… كلّها تنفذ مباشرة إلى العين بلا حواجز. الصورة تصدم، تختصر، وتُعرّي الواقع في لحظة واحدة. لكن، في المقابل، الكلمات تستطيع أن تُعيد بناء المعنى وأن تحوّل الألم إلى شهادة.  الصورة، هنا، في جوهرها، سلاح ضدّ النسيان، وهي كالكتابة، توثّق وتشهد، وتقول لا لتجريد الإنسان من إنسانيته ولا للمَحو، ولا لإخفاء الجريمة وتغطيتها بالنسيان، كأنها تمنح الضحية حياة ثانية، وتجعل من موتها معنى لا مجرّد رقم وحدث عابر... صحيح أنّ الصورة تصنع الذاكرة الجماعية للحرب، لكنها، في الوقت نفسه، ومن خلال استعمالها وطريقة التعامل معها، قد تحوّل المأساة إلى مشهد استهلاكي يُفرَّغ من معناه؛ وبفعل التكرار أيضاً، يتحوّل الرعب إلى شيء مألوف، يشكّل خلفيّة لحياتنا اليومية، فيصبح بإمكان الإنسان أن يتناول عشاءه بينما تُعرَض أمامه على الشاشة الصغيرة جثثاً مقطّعة، أو مشاهد مؤلمة من كلّ صنف ونوع.  وهذا ما تلاحظه الكاتبة والباحثة الأميركية سوزان سونتاغ في كتابَيها: "عن الصورة الفوتوغرافية" و"ألم الآخرين" حيث تقدّم تحليلاً للتغيُّرات العميقة التي أحدثتها الصورة الفوتوغرافية في طريقة رؤيتنا للحياة ولأنفسنا. فالصورة ليست وسيلة تقنية للتوثيق فحسب، بل هي أيضاً أداة إدراك وتفكير تترك أثرها على علاقتنا بالعالم والواقع والذاكرة.  الصورة ليست وسيلة للتوثيق فحسب، بل أداة إدراك وتفكير تقول سونتاغ إنّ "الفوتوغرافيا الحربية ليست مجرّد توثيق، بل هي أيضاً جزء من الوعي الجمعي والسياسي". وعبّرت في الكتابين عن خشيتها من اعتياد المشاهد على صور المأساة، فلا يعود يراها، في أحيان كثيرة، بوصفها حدثاً يعنيه شخصيّاً أو يتطلّب موقفاً منه. بالنسبة إلى الكاتبة، قد يكون سبب هذا التبلُّد أيضاً الإحباط التاريخي، وهذا ما يجعل الناس يتقبّلون الجريمة وكأنّها قدر لا مهرب منه. إنّ تصوير المأساة، منذ الحربين العالميتين، مروراً بحرب فيتنام، وصولاً إلى ما يجري في غزة وأوكرانيا، يجعل صور الدم والدمار تدخل كلّ بيت. وبالتالي، أصبح العالم يشاهد المأساة كما لو كانت مشهداً بصريّاً لا حدثاً سياسيّاً أو إنسانيّاً.  حكاية الصورة في الحرب لا تختصر الحكايات كلّها، الصحيحة والمزوَّرة. نحن اليوم في عالم تطغى الصورة على ما دونها، في السياسة والاقتصاد والأزياء والموضة والرياضة، والاستعراضات كافةً. وأمست، باستعمالاتها غير المحدودة، من رموز هذا العصر، كما دخلت في السرعة الرقميّة التي لا يمكن أن نرى من خلالها شيئاً بعمق: الحوادث، والأخبار، والعلاقات… قوس قزح بألف لون سرعان ما يختفي، ليترك وراءه حاضراً بلا ذاكرة ومستقبلاً ضائعاً وراء الأفق. هكذا لا يعود الواقع سلسلة من الأحداث المتتالية، بل مجموعة أحداث مقتطعة من سياقها التاريخي. داخل هذا الطوفان الهائل من الصور والمعلومات، والذي لم يسبق له مثيل، يصبح العالم شاشة وحسب، وتفقد الأشياء وزنها، وتترنّح أمامنا ونحن معها نترنّح، ولا يعود في استطاعتنا أن نميّز بين الواقع وصورته. أما الشاشات الصغيرة التي لا تفارق أيدينا، فتختزن كمّية قياسيّة من الصور، وهذه الشاشات هي أمكنة إقامتنا الفعلية، وعناويننا، ومخابئ أسرارنا المفضوحة. وحين نضيئها ونعبر ممرّاتها ومتاهاتها اللامتناهية، قلّما نقرأ ما يرِد فيها، لكنّنا نلمح الصور المتدافعة، الواحدة تلوَ الأخرى، تمحوها وتقفز فوقها. وفي سياق البحث عن شيء لا نعرف ماهيته، تستوقفنا بعض تلك الصور أحياناً. نتأمّلها، ثمّ نتابع السعي مسرعين، ولا ننتبه إلى أننا نعيش العالم عبر الصور أكثر ممّا نعيشه مباشرةً في الواقع.  ضمن هذا المدى، يفتح لنا الإنترنت، في لحظة واحدة، أبواب العالم أجمع، صوراً وتسجيلاتٍ ووثائق؛ ويوحي إلينا، ونحن نختلي به في غرفنا المقفلة، بأننا داخل فضاء من الحرية الكاملة، والأمر ليس كذلك. إضافة إلى أنه يُبَرمِج، في غفلة منّا وبدقّة تفوق الخيال، رغباتنا وعواطفنا وما نتحسّس ونتذوّق، أي ما نحسب أنه يشكّل الجانب الحميم في حيواتنا الخاصّة. ثمة حاجة متزايدة لدى الناس إلى الصور واستهلاكها وتكديسها لقد أصبحت الصورة في المجتمع الحديث معلماً أساسيّاً من اقتصاد الإغواء والتسليع، ومن ثقافة الاستهلاك ككلّ. ينظر إليها البعض بصفتها نوعاً من الإدمان، فثمة حاجة متزايدة لدى الناس إلى الصور واستهلاكها وتكديسها. ويكمن سحر الصورة والانجذاب إليها في قدرتها على التقاط اللحظة الهاربة، نسجّلها ونحفظها. هي اللحظة الآنيّة التي سرعان ما تصبح من الماضي، وهي أيضاً صورتنا بعد الموت، وشعورنا بالسيطرة المتوهَّمة على الزمن. وحيال هذا الواقع، تجد البشرية نفسها الآن أمام حقائق جديدة أكثر خطورة ممّا كانت عليه في السابق. من جانب آخر، تحوّلت الصورة الفوتوغرافية فنّاً قائماً بذاته. ثمّة عيون تنظر بنفاذ، فلا تكتفي بإعادة إنتاج الواقع، بل تسعى إلى خلق عوالم جديدة تأخذه أبعد من الظاهر، وتتجاوزه حين يكون المشهد انعكاساً لرؤية جمالية تصبح معها الصورة عملاً فنيّاً يحضر في المتاحف، وتُخَصَّص له المعارض في كلّ مكان. أخيراً، تبقى صورة الفرد حيال نفسه، وهي صورة ملتبسة وشديدة الخصوصيّة، نحاول من خلالها أن نمسك باللحظة العابرة، وأن نحتفظ بها في الحواسيب الحديثة أو في مكان ما من الذاكرة. أليست، كما يقول الكاتب والناقد الأدبي والسيميائي الفرنسي رولان بارت، "شهادة على لحظة لن تعود أبداً"؟ * كاتب لبناني مقيم في باريس

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows