
Arab
مع اندلاع الحرب في 14 إبريل/ نيسان 2023 لم تعد سماء الخرطوم محجوبة بالأكاذيب كما كان يظنها الطيب صالح، في إشارة لمقاله الذي تحدث فيه عن رغبة السودانيين في الهروب من بلادهم بينما يواصل الإعلام الرسمي كذبه حول الرخاء والتطور، لكن الأمور ساءت أكثر مع اندلاع حربٍ أهلية لا تزال فصولها مستمرة، ونزوح الملايين عن أرضهم ليصبح المنفى بداية حقبة جديدة في تاريخ السودان، وكتّابه بالتحديد.
شكّل المنفى فضاءً نقدياً يتحرك فيه الكاتب السوداني من موقع الهامش ليعيد اكتشاف ذاته وكتابته، وتراجعت البطولات الجماعية أو الخطابات السياسية الكبرى في النصوص الأدبية، لتحل محلها حكايات صغيرة تتناول الإنسان في هشاشته اليومية، وفي فقده، وفي اغترابه، وفي سعيه المحموم للنجاة.
كما فتَح المنفى أمام الكتّاب السودانيين أبواباً للتجريب والاحتكاك بثقافات جديدة، واستيعاب واقع مغاير من خلال العيش في أوروبا أو الخليج أو مصر أو غيرها من المنافي، ووجد هؤلاء أنفسهم في حوار مع الأدب العربي والأفريقي والغربي، وهو ما أغنى تجاربهم من جهة لكنه وضعهم أمام تحديات معقدة مرتبطة بكيفية نشر أعمالهم، وكيفية الوصول إلى القارئ السوداني في الداخل حيث الرقابة تمنع الكثير من العناوين، وكذلك إلى القراء العرب وغيرهم.
سؤال فلسفي
تمثّل ليلى أبو العلا، الكاتبة السودانية المقيمة في اسكتلندا منذ التسعينيات، علامة فارقة في أدب المنفى السوداني، عبر مجموعة أعمال روائية، منها: "المترجمة"، و"أضواء ملونة"، و"المئذنة"، ثم روايتها اللافتة "لطف الأعداء"، التي تعود فيها إلى سيرة الإمام شامل الذي تمرّد على سلطات القيصر الروسي في أواسط القرن التاسع عشر، لتناقش من خلالها إشكاليات تتعلّق بالهويات في تعددها الثقافي. وهي تبتعد قليلاً عن أعمالها الأخرى التي تقارب الهجرة بوصفها سؤالاً فلسفياً عن الانتماء واللغة والدين والذاكرة، من خلال بناء شخصيات ممزقة بين عوالم متعددة، تبحث عن إجابات لتساؤلات حرجة، وعن توازن نفسي وثقافي في اغترابها المادي والرمزي.
تحولت الهوية السودانية في نصوص الشتات إلى هوية متعدّدة
وساهمت أبو العلا في تقديم صورة مختلفة للأدب السوداني، لا تقتصر على الحرب والاضطرابات، بل تمتد إلى أسئلة العيش في الشتات وإعادة تعريف الذات في فضاءات ثقافية متباينة.
في نصوص الأدب السوداني في المنفى، يكتشف القارئ أن معظمها ليست توثيقاً سياسياً فقط، بل محاولة لتوثيق الذاكرة الوطنية التي تعرضت للتشويه، فلم يكن الهدف تمجيد بطولات الجنرالات أو تقديم سرديات رسمية، بل التركيز على الإنسان العادي؛ المرأة التي تكافح في معسكرات اللجوء، والطفل الذي فقد عائلته في قصف عشوائي، أو الرجل الذي يأمل بالعودة إلى وطن قد لا يعود كما كان. تلك الشخصيات الهشة والقوية في آن هي أبطال رواية المنفى وهم يروون قصصهم الصغيرة التي تكشف عظمة الصمود في مواجهة المأساة. وهكذا تحولت الكتابة إلى فعل إنساني شامل، لا يطلب الشفقة ولا يبحث عن تعاطف مجاني، بل يعرض الحقيقة كما هي، ويحول الألم إلى مادة فنية.
أما الروائي بركة ساكن، الذي عاش في عدد من المنافي الأوروبية، فيقدّم مشاهد حية عن المهمشين في المجتمع السوداني، وتكشف كتابته عن الصراعات الطبقية والإثنية التي تمزق البلاد، مثل رواياته "الجنقو مسامير الأرض"، و"مخلية الخندريس"، و"منفستو الديك النوبي"، وغيرها. يستعيد ساكن المسكوت عنه في التاريخ السوداني، وتركّز أعماله على آليات السلطة والقمع بأسلوب يمزج بين الواقعية والخيال الشعبي.
تسعى الكتابة في المنفى إلى فهم الهوية السودانية بوصفها كياناً متغيراً لا يمكن تثبيته أو تحديده بسهولة، فهو يتشكل باستمرار عبر التفاعل مع تجربة الهجرة والفقدان. هنا نرى كيف تحولت الهوية السودانية في نصوص الشتات إلى هوية هجينة، متعددة، ترفض الثبات وتنفتح على احتمالات مختلفة، مثلما تعكسها تجربة حمور زيادة، المقيم في القاهرة، في تناولها بلغة جريئة قضايا الدين والحرية والسلطة، في نصوصه، من خلال استعادة محطّات وأحداث مهمة في التاريخ السوداني، خصوصاً الفترة المهدية في القرن التاسع عشر، التي سلّط عليها الضوء في رواية "شوق الدراويش"، بالإضافة إلى أعماله الأخرى، ومنها: "الغرق: حكايات القهر والونس"، و"الكونج"، و"النوم عند قدمي الجبل".
معادلة هجينة
المنفى فرض على هؤلاء الكتاب الدخول في حوار مع ثقافات وأدبيات أخرى، ما سمح لهم باستكشاف أساليب جديدة والتعبير بطرق غير مألوفة. هذه الهجنة الثقافية جعلت الأدب السوداني في الشتات أكثر ثراءً، حتى وإن ظلّ مشدوداً إلى الذاكرة السودانية. فتتأرجح نصوص طارق الطيب، المقيم في فيينا والذي يكتب بالعربية والألمانية، بين السرد الفلسفي والحكايات اليومية، وتكشف عن التوتر بين الجذور السودانية والفضاء الأوروبي الذي يعيش فيه.
ظهور مجلات أدبية في مصر وأوروبا تعنى بنشر الأصوات الجديدة
برزت أيضاً أسماء أخرى تركت بصمة في المشهد الأدبي السوداني داخل الوطن وفي المنفى، منها منصور الصويم، الذي يعيش في أوغندا وتتميز رواياته مثل "آخر السلاطين" و"عربة الأموات" و"طحلب أزرق" بدمجها الواقع والأسطورة في معالجة قضايا الحرب الأهلية والهوية. كما تحضر أيضاً بثينة خضر مكي، المقيمة في القاهرة، حيث أسّست مركزاً يحمل اسمها ويهتمّ بالثقافة السودانية، ولها روايات عدة، منها "حجر من شوك"، و"أغنية النار"، وكذلك أمير تاج السر، الطبيب والروائي المقيم في قطر، الذي اشتهر بأعمال مثل "صائد اليرقات" و"حارس السور". كما لا يمكن إغفال مساهمات محجوب كبلو، الذي اهتم في كتاباته النقدية والفكرية بتوثيق أدب المهجر السوداني ومساءلة علاقة الكتابة بالقمع والذاكرة.
وإذا كانت هذه الأسماء قد صنعت حضورها الفردي في المنفى، فإن الإنتاج الثقافي لم يتوقف عند حدود الرواية والشعر، بل امتد ليشمل مشاريع جماعية أسسها السودانيون في الشتات. فقد ظهرت مجلات أدبية في القاهرة وأوروبا تعنى بنشر الأصوات الجديدة، كما تأسست منصات رقمية ومراكز ثقافية تعمل على ترجمة الأدب السوداني وإيصاله إلى قراء جدد.
في السنوات الأخيرة برز جيل جديد من الكُتّاب الشباب الذين يعيشون بين السودان ومدن عربية وأوروبية. من هؤلاء آن الصافي التي قدمت أعمالاً روائية مثل: "إنه هو"، و"مرهاة"، و"خبز العجر" تركّز على قضايا الذاكرة والهجرة ومكانة المرأة في مجتمع متغير، وكذلك رغدة الحسن التي تكتب الشعر والرواية معاً. أما حسن بشير، فهو أحد الأصوات الصاعدة التي تكتب القصة القصيرة والرواية، في مقاربة للمدن الممزقة بالحرب.

Related News

يوميات الإبادة... مئة كاتب وفنان غزّي
alaraby ALjadeed
9 minutes ago