في تعثّر تجارب الانتقال الديمقراطي العربية
Arab
1 week ago
share
منذ اللحظة الأولى التي ارتفعت فيها هتافات الميادين العربية مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بدا وكأنّ التاريخ فتح كوةً صغيرةً على أفق جديد. لم يكن المشهد مجرّد احتجاج اجتماعي أو انتفاضة سياسية، بل بدا، في عمقه، تمريناً جماعياً على إعادة تخيّل المصير. خرجت الجماهير تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي تدرك أن الأنظمة التي حكمتها عقوداً قد استنزفت كل شرعية ممكنة، وأن آلة القمع لم تعد قادرةً على حماية بنية سلطوية متآكلة. في تلك اللحظة التاريخية، تردّد السؤال الكبير، هل تكون هذه بداية الديمقراطية في العالم العربي؟ ولكن سرعان ما انقلب المشهد إلى نقيضه، فعاد الاستبداد بقوة، وغرقت بلدانٌ في الفوضى والحروب الأهلية، ووجدت أخرى نفسها أمام انقلاباتٍ صريحةٍ أو ناعمة. وهنا برزت الإشكالية المؤلمة، لماذا تعثّرت تجارب الانتقال الديمقراطي، ولماذا تحوّل الحلم إلى كابوس؟ من السهل أن نُرجع الأسباب إلى خيانة النخب أو مؤامرات الخارج أو ضعف المجتمعات، لكن التفسير أعمق من ذلك، فالعالم العربي يحمل إرثاً ثقيلاً من السلطوية، متجذّراً منذ لحظة الاستقلال الوطني. لقد ورثت الدولة العربية الحديثة أجهزةً إداريةً وأمنيةً صمّمتها القوى الاستعمارية أساساً للسيطرة، لا للتنمية أو المشاركة. ومع مرور العقود، تحوّلت هذه الأجهزة إلى منظومة متكاملة من التحكّم، قوامها المركزية المفرطة، والأمن السياسي، والحزب الواحد أو الأحزاب الموالية، وترويض المجتمع المدني. لم يتفكّك هذا الإرث السلطوي مع الثورات، بل أعاد إنتاج نفسه بسرعة، لأن مؤسّسات الثورة الوليدة لم تكن قادرة على إزاحته أو إحلال بدائل جديدة مكانه. إلى جانب هذا العامل البنيوي، هناك معضلة النخب السياسية، فقد دخلت الحركات المعارضة الساحة الديمقراطية مثقلة بخطابات أيديولوجية أكثر منها برامج عملية. الأحزاب الإسلامية، التي مثّلت القوة الأكثر تنظيماً تعاملت مع اللحظة فرصةً لتثبيت شرعية وجودها التاريخي، لا مسؤوليةً لبناء عقد اجتماعي جديد. أمّا القوى الليبرالية واليسارية فقد عانت من التشرذم والضعف، ولم تستطع أن تقدّم مشروعاً جامعاً يتجاوز ثنائية الهُويَّة. هكذا تحوّلت الانتخابات، بدل أن تكون خطوةً نحو بناء مؤسّسات راسخة، ساحةَ صراع هُويَّاتي بين "إسلاميين" و"علمانيين"، فيما تآكلت القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي كانت أساس اندلاع الثورات. وعندما تشتدّ الاستقطابات، تصبح الديمقراطية نفسها الضحية الأولى. حين تغيب الثقة، يصبح كل فاعل سياسي مستعدّاً للجوء إلى الشارع أو إلى الجيش أو حتى إلى الخارج كي يضمن مصالحه لكن السياسة وحدها لا تفسّر المشهد، فالأزمات الاقتصادية لعبت دوراً قاسياً في تعثّر الانتقال. وجد المواطن العربي الذي خرج إلى الشارع طالباً "خبزاً وحرية" نفسه أمام تضخّم مستمرّ، بطالة خانقة، ومديونية متصاعدة. لم تكن الديمقراطية قادرةً على إطعام الأفواه أو توفير الشغل، بينما كانت الأنظمة القديمة تعرف كيف تبيع خطاب "الأمن والاستقرار" لجماهير منهكة. في غياب إنجازات اجتماعية سريعة، صار من السهل على قطاعات واسعة أن تنظر إلى الديمقراطية باعتبارها رفاهاً مؤجّلاً، لا ضرورة عاجلة. وهكذا جرى تجريد الثورات من مضمونها الاجتماعي، وإحالتها أزمةً سياسيةً معزولةً يسهل الانقلاب عليها. ولم يكن الخارج غائباً من هذه المأساة. تدخّلت القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر لإجهاض التجارب الديمقراطية أو توجيهها بما يتناسب مع مصالحها. رأت بعض الدول الإقليمية في الديمقراطية تهديداً وجودياً لأنظمتها الوراثية أو العسكرية، فسخّرت المال والإعلام والدبلوماسية لدعم الثورات المضادة. أمّا القوى الكبرى، فقد تعاملت مع التحوّلات ببراغماتية باردة، ما يهمها تأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية، لا دعم حرية الشعوب. لهذا رأينا العواصم الغربية ترفع شعارات الديمقراطية صباحاً، ثم تغضّ الطرف مساءً عن القمع والاعتقالات والانقلابات، ما دام "الاستقرار" مضموناً. غير أنّ العامل الأخطر والأعمق فشل بناء تعاقد اجتماعي جديد، فالديمقراطية ليست صناديق اقتراع فحسب، بل هي أيضاً منظومة من القيم والمؤسّسات والضمانات التي تقيم الثقة بين الدولة والمجتمع. لم تنجح الثورات في إنتاج هذه المنظومة، لأن الزمن لم يسعفها، ولأن القوى المتصارعة لم تتفق على قواعد اللعبة. وحين تغيب الثقة، يصبح كل فاعل سياسي مستعدّاً للجوء إلى الشارع أو إلى الجيش أو حتى إلى الخارج كي يضمن مصالحه. بهذا المعنى، ما عاشه العالم العربي لم يكن انتقالاً ديمقراطياً مكتملاً، بل كان محاولة أولى لم تكتمل شروطها. خذوا تونس مثلاً. لقد بدت لسنوات "الاستثناء" العربي، إذ استطاعت أن تُنجز دستوراً توافقياً، وأن تنظّم انتخابات حرّة، وأن تدير انتقالاً سلمياً للسلطة. لكن هذا النجاح ظلّ هشّاً، لأن القاعدة الاجتماعية للديمقراطية كانت ضعيفة. لم يشعر المواطنون بأن حياتهم تغيّرت جذرياً، وظلّ الاقتصاد يترنّح، وبقيت مؤسّسات الدولة تحت هيمنة البيروقراطية القديمة. وعندما انهارت الثقة بين النخب، وجد الانقلاب طريقه ممهّداً. تونس لم تكن حالةً فريدةً، بل كانت مرآةً لبقية التجارب. نجاح نسبي، ثمّ انتكاسة، لأن البنية العميقة لم تتغيّر. قد يقول قائل، ربّما ليست الديمقراطية ممكنةً أصلاً في العالم العربي، ربّما هناك خصوصية ثقافية أو دينية تجعلها "مستحيلة"، لكن هذا الطرح ينطوي على تبسيط خطير. فالمجتمعات العربية لم تُظهر رفضاً للديمقراطية، بل العكس، خرجت بالملايين مطالبة بها، ودفعت أثماناً باهظةً من الدماء والاعتقالات والمنافي. الفشل لم يكن في توق الشعوب، بل في غياب الشروط البنيوية والمؤسّساتية. الديمقراطية لا تُزرع بين ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى زمن طويل من المراكمة، وإلى مؤسّسات قوية، وإلى ثقافة سياسية تعلّمت كيف تدير الاختلاف من دون أن تلجأ إلى العنف أو الإقصاء. الاستبداد عاد بقوة، لكنّه لم يعد قادراً على إقناع الناس بشرعيته، ولا على محو فكرة الديمقراطية من الوعي إن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كانت الديمقراطية ممكنةً في العالم العربي، بل متى وكيف ستعود المحاولة. فالتجارب التاريخية في العالم أظهرت أن مسارات الانتقال نادراً ما تكون خطّية. إسبانيا بعد فرانكو، وأميركا اللاتينية بعد الديكتاتوريات العسكرية، وأوروبا الشرقية بعد الشيوعية، كلّها عرفت فترات انتكاس وتعثّر، لكنّها عادت لتنجح. الفرق أنّ هذه التجارب وجدت في النهاية نخباً قادرةً على بناء التوافقات، ومجتمعات مدنية قادرة على الضغط، وظروفاً إقليمية ودولية أقلّ عدائية. أمّا العالم العربي، فلا يزال يفتقد هذه العناصر مجتمعةً. بعد أكثر من عقد على انطلاق الثورات، يقف العرب أمام مرآة قاسية. الحلم لم يتحقّق، لكن جذوته لم تنطفئ. هناك جيل كامل كبر وهو يحمل ذاكرة الميادين، ويعرف أن الحرية ممكنة، حتى وإن خسر المعركة الأولى. الاستبداد عاد بقوة، لكنّه لم يعد قادراً على إقناع الناس بشرعيته، ولا على محو فكرة الديمقراطية من الوعي. لهذا يمكن القول إن الديمقراطية في العالم العربي لم تُهزم تماماً، لكنّها لم تولد بعد. نحن عالقون في منطقة رمادية، بين استبداد يتداعى، وديمقراطية لم تتأسّس، وانتظار لموجة ثانية قد تكون أكثر نضجاً وأكثر إصراراً. إن تسمية الديمقراطية بالمستحيلة قد تكون توصيفاً لوضعنا الراهن، لكنها ليست حكماً نهائياً، فما بدا مستحيلاً في أوروبا الشرقية قبل سقوط جدار برلين صار واقعاً في أقلّ من عقد، وما بدا مستحيلاً في جنوب أفريقيا تحت نظام الفصل العنصري تحقّق حين تضافرت الإرادة الداخلية مع الظرف الدولي. الأمر ذاته ينطبق على العالم العربي، قد يطول الزمن، وقد تتكرّر الانتكاسات، لكن فكرة الحرية لا تموت. السؤال الذي سيظلّ مطروحاً هو، هل نتعلّم من أخطاء الموجة الأولى، أم سنعيد الدوران في الحلقة نفسها من الأمل والخيانة والانكسار؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows