
طوال عامين من حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، لم تسلم المناطق والعمران الأثرية والمتاحف من الاستهداف، وكان آخرها مخزن للآثار عمره 30 عاماً في برج الكوثر الشهير في حي الرمال في مدينة غزة، إذ قصفته طائرات الاحتلال ودمرته كاملاً يوم 14 سبتمبر/أيلول الحالي.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول خبير الآثار فضل العطل (44 عاماً)، إنّ المخزن التابع للمركز الفرنسي لدراسة الكتاب المقدس، والمعروف باسم المدرسة الفرنسية، قد تدمر بعد مهلة قصيرة منحها الاحتلال للمدرسة لتفريغ بعض محتوياته، "في 10 سبتمبر، تلقّت المدرسة الفرنسية إشعاراً بقصف وشيك، وأُبلغت بأنّ لديها مهلة حتى الساعة السادسة مساءً لإخلاء المحتويات. وعلى الفور، بُعثت رسائل إلكترونية إلى المهتمين بحماية الآثار حول العالم لمناشدتهم، وبموافقة الجانب الإسرائيلي، سُمح بنقل ست شاحنات فقط".
يشير العطل إلى أنه رغم الجهود المبذولة، نُقل نحو 70% من محتويات المخزن، بينما بقيت 30% من القطع الأثرية في الداخل، مؤكداً أن عددها يصل إلى عشرات الآلاف من القطع الأثرية التي تعود إلى العهود البيزنطية والإسلامية واليونانية، لم يتسنَّ إنقاذها. وقد نُقلت القطع التي أُنقذت إلى واحدة من أقدم كنائس العالم في غزة القديمة، كنيسة بيفيريوس التي تأسست عام 407 ميلادي وتعرضت للاستهداف الإسرائيلي مرات عدّة، وقد مثّلت ملاذاً لمئات النازحين منذ بداية الحرب.
وفقاً للعطل، فالمخزن الذي كان مخصصاً للدراسات والترميم والصيانة، يضم قطعاً أثرية ناتجة عن أعمال تنقيب استمرت لثلاثة عقود، وهو مخزن علمي لا يحتوي على أيّ مقتنيات تجارية، وقد استهدفه الجيش الإسرائيلي سابقاً خلال الحرب ما أدى إلى انهيار جداره الغربي والتسبّب بأضرار في العديد من القطع الأثرية الفخارية، يؤكد العطل أن خبير آثار إسرائيلي رافق الجيش خلال المداهمة.
يعبّر العطل عن قلقه حول مستقبل القطع الأثرية المخزنة في الشاحنات في باحة الكنيسة في ظروف غير مواتية للحفاظ عليها بسبب العوامل الجوية، وبفعل القصف المستمر في المنطقة واستهداف الكنائس على حدٍ سواء. يصف الخبير هذه الخسائر بأنها تاريخية علمية: "نعمل جاهدين على توثيق القطع الأثرية التي بحوزتنا، فقد وثّقنا كل ما أمكن توثيقه، وحمينا ما استطعنا حمايته، ورمّمنا ما احتاج إلى الترميم والصيانة، ولدينا كثيرٌ من القطع الأثرية الموثقة".
لا يخفي العطل الذي غادر غزة منذ ثلاثة أشهر حزنه على هذه الخسائر، معبراً عن إدراكه أن الفرق المعنية بالآثار في قطاع غزة، لا تملك رفاهية العمل على حمايتها تحت وطأة الحرب والتجويع والبحث عن أساسيات الحياة والنزوح المتكرّر، "سأكون صريحاً، هذه أول مرة أتحدث فيها عن هذا الأمر. أسعى جاهداً إلى نقل القطع الأثرية إلى مكان آمن، وتحديداً إلى منطقة دير القديس هيلاريون في النصيرات، وهو موقع تعترف به يونسكو. لكن، وعلى الرغم من أن هذا الموقع مُدرج في قائمة يونسكو، فإنّني لا أثق بوجود أيّ حماية حقيقية"، ويضيف العطل: "لا يوجد مكان آمن في غزة. من يدمر المواقع الأثرية، وهو يعلم أنها مواقع أثرية، لا يمكن أن نثق به على الإطلاق".
بدأ العطل بالتطوع طفلاً في الرابعة عشرة من عمره مع فرق التنقيب الفرنسية التي بدأت بالعمل في غزة بعد اتفاقية فرنسية-فلسطينية عقب اتفاقيات أوسلو عام 1993، وبعد 30 عاماً وجد نفسه مرغماً على مغادرة غزة، لكنّه رغم ذلك يسعى إلى العمل على حماية الآثار من خلال مواصلة العمل مع المؤسّسات المختصة، يخبرنا أن المواقع الأثرية في قطاع غزة "معروفة ومكشوفة للجميع ومن الضروري حمايتها لأنها تمثل إرثاً للإنسان القديم وليست من صنع العصر الحديث، كما أنها تجسد تبادل الثقافات والتاريخ، وتُعتبر مهد الحضارات".
وفقاً لتقارير صادرة عن منظمات التراث الثقافي، بما في ذلك يونسكو ومنظمة التراث من أجل السلام ومؤسسات فلسطينية، فقد دُمّرت مئات المواقع المهمّة في قطاع غزة، من بينها المساجد والكنائس، كالمسجد العمري الكبير الذي تعود مئذنته إلى العصر المملوكي، وتضرّر دير القديس هيلاريون وهو موقع من العصر البيزنطي.

Related News
