تداعيات صعود منظومة 25 يوليو في تونس
عربي
منذ يوم
مشاركة

مثّلت أحداث 25 يوليو/ تموز (2021) لحظة مفصلية في تاريخ تونس السياسي الحديث، فقد أعلن الرئيس قيس سعيّد عقب احتجاجات شعبية محدودة عن إجراءات استثنائية جريئة وخطيرة، شملت تجميد البرلمان المنتخب، ورفع الحصانة عن النواب، وإنهاء مهام رئيس الحكومة هشام المشيشي وتولّيه زمام السلطة التنفيذية، في خطوة وصفها بأنها تهدف إلى "تصحيح المسار الثوري". وأثار ذلك التحوّل غير المسبوق في بنية الحكم جدلاً واسعاً بين من اعتبره استجابة حاسمة لإرادة شعبية أنهكها الفساد والتجاذبات الحزبية ومن رآه انزلاقاً نحو حكم فردي وتهشيماً لمكتسبات الديمقراطية التي راكمتها البلاد منذ الثورة (2011). وأحدثت المنظومة الحاكمة الجديدة تحوّلات عميقة على عدة مستويات: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، حقوقية، وإعلامية، انعكست على بنية الدولة، وعلى موقع تونس إقليميّاً ودوليّاً. وبين خطاب رسمي يروّج استعادة السيادة الوطنية وتمكين الإرادة الشعبية ومحاربة "المنظومة الفاسدة"، وواقعٍ يشهد تعقيداً في الأوضاع العامة وتآكلاً تدريجيّاً في المؤسّسية والتعدّدية. تظلّ تداعيات "25 يوليو" موضوعاً حيويّاً، من المهمّ الوقوف عنده لتبيّن حصيلة هذه المنظومة بعد أربع سنوات من تولّيها مقاليد الحكم، ولفهم طبيعة المرحلة التي تمر بها البلاد وما يكتنفها من تعقيدات.

سياسياَ، مثّل صعود "منظومة 25 يوليو" نقطة تحوّل حاسمة في المسار السياسي الذي عرفته تونس بعد الثورة، فقد انتقلت البلاد عملياً من نظام برلماني معدّل إلى نظام رئاسي مطلق، يمنح قيس سعيّد صلاحياتٍ واسعة في إدارة البلاد على نحو وضع حدّاً للتنافس على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، وجعل رئيس الدولة محور المنظومة الحاكمة. وساهم ذلك في الحدّ نسبيّاً من تشتّت اتخاذ القرار بين مؤسسات سيادية مختلفة. وانبنى هذا التوجّه على إنتاج نظام حكم أحادي، تأسّس على تفكيك النموذج الديمقراطي التشاركي الذي أبدعته الثورة وعلى تقويض التوازن بين السلطات الثلاث (التشريعية، والقضائية، والتنفيذية)، التي أصبحت مجرّد وظائف خادمة للسلطة المركزية بموجب الدستور الجديد (2022)، وتأكّد ذلك مع حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وانتخاب مجلس نيابي وآخر للأقاليم والجهات مواليين لقيس سعيّد، الذي يعيّن رئيس الحكومة، ويراقب أداءها، ويملك صلاحية إقالتها. وهو ما أوجد نظاماً رئاسوياً مفرطاً في السلطة، قائماً على الشرعية الفردية، وعلى شعبوية الزعيم، لا على التوافقات الحزبية والتوازنات المؤسساتية وآليات الرقابة المدنية المتبادلة.

تراجعت مكانة الأحزاب السياسية والنقابات في المشهد العام، في ظل خطاب سياسي رسمي يُحمّل المنظومة السابقة مسؤولية الأزمات، ويُهمّش التعددية والتشاركية

كما تراجعت مكانة الأحزاب السياسية والنقابات في المشهد العام، في ظل خطاب سياسي رسمي يُحمّل المنظومة السابقة مسؤولية الأزمات، ويُهمّش التعددية والتشاركية، ما أدّى إلى تآكل الحياة السياسية ومؤسّسات الوساطة. وقد حاولت بعض المكوّنات المعارضة الوازنة، مثل جبهة الخلاص الوطني، وحركة مواطنون ضدّ الانقلاب، وحزب العمّال، والحزب الدستوري، الحدّ من نفوذ "منظومة 25 يوليو" وتحريك الشارع الاحتجاجي ضدّها. لكنّ تشتت تلك القوى السياسية وعدم وقوفها على أرضية برامجية موحّدة، واستنزافها بفتح ملفّات قضائية ضدّ قياداتها حدّ من قدرتها على تشكيل قوّة احتجاجية شعبية، مستدامة، مضادّة، على المنظومة الحاكمة. والمشهود حالة من الاستقطاب الحادّ بين مؤيدي مشروع "تصحيح المسار" ومعارضيه، وحالة من العزوف الجمعي عن ممارسة السياسة في ظلّ فقدان الثقة في الفاعلين السياسيين حكّاماً ومعارضين.

حقوقياً، أحدثت المنظومة تحولاً عميقاً في المشهد الحقوقي بتونس، فقد شهدت البلاد انحسار الحرّيات العامّة والخاصّة، التي كانت من أبرز مكاسب الثورة التونسية. وأدّى تأبيد التدابير الاستثنائية، وما تلاها من إلغاء لدستور 2014 وتكريس هيمنة السلطة التنفيذية على المجال العام، إلى غياب آليات الرقابة والمساءلة، ما أفسح المجال لممارساتٍ تمسّ بحرية التعبير والتجمع والتنظيم. وشهدت حقبة ما بعد 25/07/2021 اعتقال معارضين سياسيين بارزين، ونشطاء، وصحافيين، ومحاكمتهم على خلفية آرائهم أو تدويناتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، بموجب المرسوم الرئاسي عدد 54 الذي فرض قيوداً صارمةً على حرّية التعبير. كما ظهرت محاكمات بتهم فضفاضة مثل "الإساءة إلى الأمن القومي" أو "نشر أخبار كاذبة"، أو "ارتكاب أمر موحش ضدّ رئيس الجمهورية" بناء على الفصل 67 من المجلة الجزائية التي صدرت في عام 1913، وهو قانون قديم، كان يهدف لحماية العائلة الحاكمة في زمن البايات. وانتقدت تلك المحاكمات منظمات حقوقية دولية وازنة، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، معتبرة أن تونس تعود إلى مناخ تقييدي للحريات يشبه إلى حدّ ما فترات ما قبل 2011.

لم تنجح حكومات الرئيس في إبداع مناويل تنموية جديدة، وإرساء معالم اقتصاد تكاملي، إنتاجي، ناجع

كما أثّرت "منظومة 25 يوليو" بشكل ملحوظ على ديناميكية منظمات المجتمع المدني في تونس، التي كانت منذ الثورة أحد أهم روافد الانتقال الديمقراطي ومراقبة الحياة العامة. بعد إعلان التدابير الاستثنائية، دخلت العلاقة بين السلطة التنفيذية والمجتمع المدني مرحلة توتر ملحوظة، حيث اتسم خطاب أنصار الرئيس سعيّد تجاه هذه المنظمات بنبرة اتهامية رافضة لنشاط عدد من الجمعيات الأهلية والحقوقية، ودأبوا على توجيه اتهاماتٍ لمنظمات محلية ودولية بـ"العمالة للخارج" أو "التدخل في الشأن الوطني"، ما أسّس لمناخ من التشكيك والعداء الرمزي تجاه العمل المدني. وواجهت بعض الجمعيات صعوبات إدارية ومالية، حيث جرى تضييق الخناق على تمويلها الأجنبي، أو فرض رقابةٍ على أنشطتها. كما جرى استدعاء بعض رؤساء الجمعيات للتحقيق، خصوصاً التي تُعنى بالحرّيات وحقوق الإنسان أو تراقب سير الانتخابات. كذلك، تراجع انخراط مؤسسات الدولة في التشاور مع المنظمات المستقلة، سواء في صياغة القوانين أو تنفيذ السياسات، ما قوّض مبدأ التشاركية والرقابة المدنية الذي يُعد من مكتسبات دستور 2014. لكنّ ذلك لا يمنع من الإشارة إلى أنّ منظمات مجتمع مدني استمرّت في تنظيم وقفات احتجاجية للتنديد ببعض تجاوزات السلطة التنفيذية، ومساندة معتقلين على خلفيات سياسية، ولعبت دوراً محورياً في رصد الانتهاكات والترافع من أجل إعمال مدوّنة حقوق الإنسان واستعادة مشروع الديمقراطية التشاركية في البلاد.

وفي سياق متّصل، نجحت منظومة 25/07/2021 في احتواء وسائل الإعلام العمومية، بإحداث تغييرات في إدارات التحرير أو فرض خط تحريري مهادن. وساهم هذا التحوّل في إضعاف التعدّدية الإعلامية وتراجع ثقافة الرأي والرأي الآخر، وهو ما أثّر سلباً على جودة الخطاب الإعلامي ومصداقيته. واستُخدمت قوانين غير متخصّصة، مثل قانون مكافحة الإرهاب والمراسيم الرئاسية الجديدة، لمحاكمة إعلاميين على خلفية نشر آراء أو تقارير اعتُبرت "مُحرّضة" أو "مُسيئة لمؤسّسات الدولة ورموزها"، في سابقةٍ أعادت إلى الأذهان ممارسات الرقابة السلطوية التي كانت سائدة قبل2011. وأشار تقرير "مراسلون بلا حدود" لسنة 2025 إلى تراجع تونس في مؤشر حرية الصحافة، فقبل خمس سنوات كانت في المرتبة 72 عالمياً، فيما أصبحت اليوم في المرتبة 129.

فقدت تونس صورتها باعتبارها ديمقراطية استثنائية في المنطقة

على الصعيد الاقتصادي/ المعيشي، ورثت المنظومة اقتصاداً متهالكاً على امتداد عقود، تأسّس على الريع والجباية، والاقتراض من البنوك المحلّية والدولية. ولم تنجح حكومات الرئيس في إبداع مناويل تنموية جديدة، وإرساء معالم اقتصاد تكاملي، إنتاجي، ناجع. وظلّ المواطن يعاني ويلات تدهور المقدرة الشرائية بسبب تجميد الأجور، والارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الاستهلاكية، فضلاً عن ندرة مواد أخرى، وتسجيل نقص في توفير عدة أدوية حيوية. ويجد الناس صعوبة في الوصول إلى خدمات القُرب (الكهرباء، الماء، التطهير...)، بسبب تعقيدات إدارية شتّى. وذلك رغم توصيات سعيّد المتواترة بتعصير الخدمات الإدارية والمرافق العمومية. وأثرت البيروقراطية وحالة عدم اليقين سلباً على مناخ الأعمال، فقد علّقت بعض الشركات الأجنبية استثماراتها أو خفّضت نشاطها. كما واجهت الدولة صعوبات في تعبئة الموارد من السوق الداخلية والخارجية، ما اضطرّها إلى الاعتماد بشكل متزايد على التمويل الداخلي (اقتراض من البنوك المحلية)، ما زاد من الضغوط على القطاع البنكي وأثر على وفرة السيولة. لكن ذلك لا يحجب أهمّية المبادرة الرئاسية بتغيير قانون الشغل، على نحو يحسّن من الوضع المهني لبعض العمّال، ويحدّ من ظاهرة التشغيل الهش. كما استعاد قطاع السياحة عافيته، وتحسّنت وتيرة إنتاج الفوسفات بعد تعثّر دام طويلاً.

خارجياً، فقدت تونس صورتها باعتبارها ديمقراطية استثنائية في المنطقة، وهي المكانة التي كانت تمنحها وزناً في المحافل الدولية، وتفتح لها أبواب الدعم الغربي. لكنّها حافظت على دعمها الرسمي والشعبي للقضية الفلسطينية، واتجهت بعد 25/07/2021 إلى البحث عن شراكات جديدة مع الشرق (الصين، وروسيا، وإيران...)، وهو ما يعتبر تحوّلاً نسبياً في تموقعها الجيوسياسي.

ختاماً، تقتضي المرحلة الراهنة، أكثر من أي وقت مضى، مقاربة عقلانية/ نقدية لما أفرزته "منظومة 25 يوليو"، من أجل بلورة مسار إصلاحي/ تشاركي، ينفتح على مكوّنات المجتمع المدني، ويبعث برسائل طمأنة إلى الداخل والخارج، ويُعيد للتونسيين الثقة في الإدارة والدولة، ويصون الحريات، ويعزّز الاستقرار والديمقراطية بشكل متوازن ومستدام.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية