عادل الترتير... صندوق العجب والحكايات حتى آخر نفس
عربي
منذ 12 ساعة
مشاركة

في معرضٍ استثنائي نظّمته بلدية مدينة رام الله ويستمر حتى نهاية الشهر الحالي، تحتشد ذكريات وقصص الفنان المسرحي الفلسطيني الراحل عادل الترتير (1951 - 2025). وسط الأضواء الخافتة والعيون المتأملة، تقف صناديق العجب شاهدة على أكثر من ثلاثين عاماً من العمل المسرحي. لا يكتفي هذا المعرض باستحضار أعمال الترتير، بل يمنح الزائرين تجربة بصرية فريدة، تأخذهم في رحلة داخل الحكايات الشعبية، وصياغاتها الجمالية، ووعي جمعي أصرّ الترتير على صيانته حتى آخر نَفَس.

علاء الترتير، نجل الفنان الراحل وأحد قيّمي التظاهرة، يشير في حديثه داخل أروقة المعرض إلى أن هذا المشروع هو بالأساس سردٌ لسيرة صناديق العجب التي شكّلت حجر زاوية في مسيرة والده الفنية منذ مطلع التسعينيات. يتضمن المعرض 12 صندوقاً أنجزها الترتير على مدار ثلاثة عقود، ولكل منها شكل ووظيفة، لكن جميعها تصبّ في هدف واحد: حكاية الرواية الفلسطينية، بطريقة شعبية خالصة. يوضح الترتير الابن أن فكرة صندوق العجب بدأت مع والده عام 1993، حين شرع بتطوير هذا الشكل التراثي الشعبي، ليحوله إلى وسيلة فنية تدمج المسرح والحكاية والدمى في آن. الصندوق الأول كان بسيطاً: هيكل خشبي ملوّن بشريط طويل يمتد لثلاثة أمتار، عليه رسومات توضيحية، يؤدي أمامه الفنانون عروضهم. لكن سرعان ما تطورت الفكرة، لتتخذ أشكالاً فنية مركّبة، فأنشأ الترتير صناديق بعين واحدة، وأخرى بعينين، وصولاً إلى صناديق بثلاث وأربع عيون، تتفاوت في الزخرفة ونوعية الخشب المستخدم. يشير الترتير الابن إلى أن كل صندوق من هذه الصناديق هو عمل فني مستقل، يستغرق إنجازه سنوات، بدءاً من التصميم والرسم، وانتهاءً بالحفر اليدوي والطلاء.

عادل الترتير لم يكن مجرد مصمّم أو نجّار ماهر، بل فنان تشكيلي بالفطرة، كان يحفر الزخارف بنفسه، ويستخدم أنواعاً متعددة من الخشب، كالزان والبلوط، ويبتكر تقنيات خاصة كالحرق على الخشب أو الرسم المباشر. بعض الصناديق كانت خفيفة ومحمولة، وأخرى ثقيلة. لكن صناديق العجب لم تكن مجرد حوامل خشبية للعرض، بل كانت امتداداً لرؤية فنية أوسع.

وهو لم يكن حكواتياً تقليدياً، بل مؤسساً لمدارس مسرحية متكاملة في فلسطين، على مدار أكثر من خمسين عاماً، بدءاً من فرقة "بلالين"، ثم فرقة "صندوق العجب"، إلى ابتكاره أول مونودراما فلسطينية عام 1980 بعنوان "راس روس"، إذ تولّى بنفسه الكتابة والإخراج والتمثيل والسينوغرافيا، ما جعل تجربته فريدة من نوعها في المسرح الفلسطيني. مزج بين المسرح والفن التشكيلي والحكاية الشعبية، مستنداً إلى إحساس فني عميق، ورؤية ثقافية مقاومة.

صناديق العجب كانت تعبيراً عن هذا المزج، إذ تجاوزت كونها أداة لسرد القصص، لتصبح مساحات حية تُجسّد فيها الحكاية الفلسطينية بأسلوب بصري وحركي. كل صندوق من صناديق العجب يحوي في داخله قصة، أو أكثر. تجاوز عدد القصص التي قدمها الترتير 16 قصة، بعضها من تأليفه وأخرى من الموروث الشعبي، مثل "الجراد في المدينة"، و"نص نصيص". في عروضه، كان يروي حكايتين إلى ثلاث، مخصصاً إياها للفئة العمرية المناسبة، مفتتحاً عروضه بقصة "ولادة أبو العجب"، الراوي الرئيسي، الذي يمثل الحكواتي الفلسطيني. من خلال صناديقه، جاب معظم البلاد التي استطاع الوصول إليها، حاملاً صندوقه على ظهره، عارضاً في المدن والمخيمات والقرى.

يتحدث الترتير الابن عن تأثر والده بعروضه في الخِرَب المعزولة حول الخليل، حيث كان الأطفال يرون عرضاً مسرحياً لأول مرة في حياتهم. هذه اللحظات، كما يقول، كانت من أكثر ما أثر في الترتير، وجعلته يصرّ على الاستمرار في عروضه حتى النفس الأخير، هو الذي كان يردد دوماً: "سأحكي قصصي حتى آخر نفس". يرى الترتير الابن أن والده أبدع في خلق "صبغة فنية خاصة"، يمكن تمييزها بسهولة في كل صندوق، من خلال الزخرفة، وتدويرات الحلزونات، والعصي التي تُحرّك الصندوق من الأعلى، والإطارات المنحنية ذات العيون المتعددة. رغم الاختلافات بين الصناديق، يجمعها طابع بصري موحّد، وروح إبداعية واحدة. ولأن الزمن لا يتوقف، فإن المعرض لا يكتفي بعرض الماضي، وإنما يفتح الباب نحو المستقبل. يوضح الترتير الابن أن الغرفة الأخيرة في المعرض تدمج تكنولوجيا حديثة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، وآلات قصّ الليزر، لصنع صناديق عجب مبسّطة، يُمكن للأطفال أن يلوّنوها ويستخدموها لرواية قصصهم.

هذه المبادرة تهدف إلى جعل صندوق العجب وسيلة تفاعلية تربط بين الأجيال، وتحافظ على استمرارية الحكاية بأساليب تتماشى مع العصر. يُشدّد علاء الترتير على أن هذه المبادرة لا تأتي تحية رمزية أو مجرّد لفتة تكريمية، بل تُجسّد امتداداً حقيقياً للفلسفة الفنية التي حملها والده طيلة مسيرته. فقد كان يرى في الفن وسيلة حيّة للتفاعل مع الواقع، وليس مجرد عرض جمالي معزول عن تحوّلات المجتمع.

لطالما عمد عادل الترتير إلى إعادة تشكيل الحكايات الشعبية وتطويعها بما يتناسب مع السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة، بل وحتى التكنولوجية، مدفوعاً بإيمان راسخ بأن الفنّ قادر على المساهمة في نهضة الشعوب وتقدّمها. وفي زمن تُهدّد فيه الحداثة المتسارعة بطمس الجذور الثقافية، ظلّ يرى أن الحفاظ على الفنون الشعبية وتجديدها هو فعل مقاومة بحدّ ذاته، ومشروع مستقبلي لا يقل أهمية عن أي مشروع سياسي أو اجتماعي.

يوضح الترتير الابن أن هذا المعرض يُمثّل خطوة أساسية ضمن مشروع أوسع يهدف إلى صون إرث عادل الترتير المسرحي الغني، مضيفاً أنه يعمل حالياً على إعداد كتاب شامل يوثّق المسيرة الفنية لوالده، الممتدة على مدار خمسة عقود، إلى جانب إنشاء أرشيف إلكتروني يضم أكثر من أربعة آلاف مادة توثيقية، تشمل صوراً ونصوصاً وعروضاً مسرحية ومقابلات، ويأمل أن يتحوّل هذا المعرض إلى مساحة دائمة، تحتضنها البلدة القديمة في رام الله، في مقر صندوق العجب، ليظل هذا الإرث حياً ومتجدداً في ذاكرة الأجيال القادمة. 

يؤكد الترتير الابن أن الثقافة هي المورد الوحيد الذي لا يزال في متناول الفلسطينيين للتميّز والإبداع، في ظل الانقسامات المجتمعية، والهشاشة السياسية، والأزمات الاقتصادية التي تحاصر الواقع الفلسطيني. من هنا، يرى أن المعرض فعل ونداء للاستفاقة، ولتقدير الفنانين وهم أحياء، ولإعادة الاعتبار إلى الإرث الثقافي الفلسطيني بوصفه أساساً متيناً للهوية.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية