
خرجت شابّات سوريات، في مارس/ آذار 2011، إلى سوق الحميدية، القلب الرمزي لدمشق، ورفعن لافتة: "أوقفوا القتل... نريد أن نبني وطناً لكل السوريين"، بينهنّ ديما بالي، التي ضُربت يومها، شُتمت، وسُحلت في السوق وسط صرخات النساء وخوف المارة. واليوم، في يوليو/ تموز 2025، تُضرب زينة شهلا أمام مجلس الشعب، لأنها وقفت بعبارة: "دم السوري حرام". المصادفة قاتلة، والمفارقة أليمة: من قمع السلطة إلى قمع "المجتمع"، من شبّيحة الأسد إلى شبيحة السلطة الراهنة.
في 2011، كان القامع واضحاً: نظام أمني - عسكري تديره أجهزة المخابرات، يعرف كيف يقمع، ولم يكن يعتذر. في 2025، القامع ملتبس: "نشطاء"، "أحزاب جديدة"، و"قوى مجتمعية"، تمارس القمع باسم "الوطن"، أو "الدين"، أو حتى "المجتمع المدني"، وكلّها تتغذّى على سرديات رجولية سلطوية. كان شبّيحة بشّار يضربون باسم القائد. الشبّيحة الحاليون يضربون باسم "الحقيقة"، أو "الوطن البديل"، أو "الحشمة"، أو "الوعي الجمعي"، لكن بأدوات لا تختلف: الإذلال، التشهير، الشتيمة، الإسكات.
حمل القمع السياسي في سورية، منذ البداية، طابعاً جندريّاً. النساء لسن فقط ضحايا عرضيات، بل أهداف ممنهجة. سُحبت ديما بالي من شعرها في 2011. وُصفت زينة شهلا بـ"العاهرة" و"المأجورة". الشتائم نفسها. اللغة نفسها، وإن تغير الشعار من: "مين أنتو؟" إلى: "فشرتي تحكي باسمنا". السلطة، حين تُهدَّد امرأة تخرج عن طوع "القائد" أو "القبيلة"، تستدعي فوراً أدوات الإهانة الجسدية والجنسية، لإرجاعها إلى "حدودها" المفترضة. سواء كانت تلك السلطة بعثية، دينية، أو حتى "مدنية".
لم يعد القمع حكراً على نظام الأسد، بل توزّع بين أيدٍ متعددة: عسكرية، دينية، أو حتى "مدنية
ما يثير الرعب أكثر ليس فقط أن العنف يتكرّر، بل أن إنتاجه تعيده المعارضة نفسها، من القوى "البديلة" التي تدّعي تمثيل الشعب. لم تُضرب زينة من مخابرات الأسد، بل من تيار يزعم أنه يمثل "الوعي الجديد". إنه التحول الأخطر: أن تصبح الأدوات القمعية جزءاً من اللغة الثورية. أن ينقلب الهامش إلى نسخة مشوّهة عن المركز. أن تنتقل أدوات التشبيح من الكتف العسكرية إلى اللافتة السياسية.
وفي مكان آخر من هذا المشهد السوري المتكرّر، تعرضت سيما عبد ربه، المستشارة في وزارة الاقتصاد، لحملة من الشتائم والاتهامات بالخيانة العظمى لأنها طالبت بتدخل الأمم المتحدة والأردن طرفين حيادين لتقييم الوضع في السويداء، ما جعلها تنسحب من الحكومة. جاءت استقالة سيما لتضيف طبقة أخرى إلى هذا الفشل البنيوي في احتواء الصوت النسائي. لم تستقل فقط بسبب موقف سياسي، بل أيضاً بسبب استحالة الاستمرار داخل مؤسّسات تجمل وجه النظام. لم تتحمل أن تكون مجرّد اسم نسائي في قائمة ذكورية تحكمها التوازنات والولاءات لا المبادئ. مثل ديما وزينة، اختارت ألا تصمت، لكن بصيغة مختلفة: عبر الانسحاب. انسحاب كرفض، كصرخة مكتومة.
متى ستُعامل المرأة السورية ككائن سياسي وفكري، لا كجسد يُهان لمجرّد اختلافها؟
بين 2011 و2025، تغيرت وجوه الحكام، لكن البنية السلطوية الذكورية بقيت. لم يعد القمع حكراً على نظام الأسد، بل توزّع بين أيدٍ متعددة: عسكرية، دينية، أو حتى "مدنية". وفي قلب هذا الظلام، تبقى أصوات النساء السوريات تنادي بالحقيقة وترفض القتل. السؤال اليوم ليس فقط عن سقوط الديكتاتور، بل عن سقوط منظومة القمع بأكملها. هل يمكن لسورية أن تبني مستقبلاً لا تُضرب فيه المرأة لأنها تقول الحقيقة؟
رغم قسوة القمع، تظل النساء السوريات رمزاً للمقاومة والتحدّي. ديما وزينة وسيما ليست أسماء معزولة، بل حلقات في سلسلة طويلة من النساء اللواتي يرفضن الصمت. من رزان زيتونة، التي اختطفت لدفاعها عن الحقوق، إلى ناشطات السويداء اللواتي ينظمن الاحتجاجات رغم التهديدات اليومية، تستمرّ المرأة السورية في مواجهة السلطة الذكورية بكل أشكالها. لكن السؤال يبقى: متى ستُعامل المرأة السورية ككائن سياسي وفكري، لا كجسد يُهان لمجرّد اختلافها؟
هل يمكن للنساء السوريات، من ديما إلى زينة وسيما، أن يحلمن بنظام سياسي يجرّم الاعتداء على كرامتهن وسمعتهن؟ نظام يحميهن من التشويه الناتج عن اختلاف الرأي، بدلاً من إجبارهن على الانسحاب من المشهد العام، كما يحدث لكثيرات؟ تظلّ مقاومة هؤلاء النساء، رغم قسوة القمع، شعلة أمل تدعو إلى تفكيك منظومة الإخضاع الذكورية وبناء مستقبلٍ لا تُسكت فيه الحقيقة.

أخبار ذات صلة.
