راديكالية ولكنها خاطئة
عربي
منذ يوم
مشاركة

أطلقت الجامعة الأميركية في بيروت (مكتب البند السابع Title IX)، في عام 2008، ومن إطار الاهتمام بمبادئ "التنوّع والإنصاف والشمول" (DEI)، في خطوة مؤسسية طال انتظارها لمكافحة التمييز والتحرش. حظيت هذه المبادرة بإشادة واسعة، لكن بعد أيام قليلة من تدشينها، تسلمت شكوى أثارت انتباهي إلى التناقضات البنيوية الكامنة وراء هذه الخطوة المتقدمة ظاهراً. جرى اختيار ممرّضة فلسطينية، وهي خرّيجة من الجامعة، للعمل في مركز الجامعة الطبي، إلا أن قسم الموارد البشرية منع توظيفها في نهاية المطاف. وعندما علمت بأبحاثي عن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان وحالتهم الاجتماعية - الاقتصادية والمدنية، لجأت إليّ طالبةً مساعدتي. أرسلتُ رسالة تفصيلية إلى مكتب البند التاسع الجديد، طالباً إنصافها من تمييز واضح في تقديري. جاء الرد من رئيسة المكتب متعاطفاً ومندهشاً في الوقت نفسه، لأن أول شكوى رسمية لم تتعلق بالتحرّش الجنسي. طلبت المزيد من التفاصيل، وأقرّت بعدم عدالة استثناء اللاجئين الفلسطينيين. وبعد شهرين، جاء الرد سلبيّاً، مشيراً إلى أن قانون العمل اللبناني هو العائق للسماح لها بالعمل. فأجبتها بأنه إذا تبنّينا بصرامة القانون اللبناني، فإن مسائل متعددة جوهرية في مهمة المكتب، وخصوصاً المتعلقة بالجنس، ستصبح مستحيلة للتعامل معهم.

تجسّد هذه الحادثة مشكلة أعمق، فالنموذج التوجيهي لـ"DEI"، كما يُطبّق غالباً، يضع التمييز بين فرد وآخر في الصدارة على حساب أشكال التهميش النسقية والاستعمارية. إنه شديد التركيز على الفردية، ويتجاهل الظلم الجماعي والبنيوي، خصوصاً حين يمسّ أولئك الذين يصنفون كـ"الآخر": اللاجئين، الشعوب المستعمرة، أو عديمة الجنسية.

اليوم، في ظل ما تصفها مؤسّسات حقوق الإنسان الدولية بالإبادة في غزّة، يجب أن نعيد النظر النقدي في دور المؤسّسات الأكاديمية في مواجهة العنف البنيوي والاستعمار الاستيطاني. وقد ذهب الرئيس الأسبق للجمعية الدولية لعلم الاجتماع (ISA)، ميشيل بوراوي، إلى حد القول إن دعم النضال الفلسطيني هو "الاختبار الحاسم" لسوسيولوجيي العالم بالتزامهم برسالة السوسيولوجيا في مقاله "Why and How Should Sociologists Speak Out on Palestine؟".

المشاركة في المنتديات الأكاديمية العالمية فرصة لتحدّي المركزية الأوروبية، ولإبراز أصوات الشعوب المستعمَرة وبالذات أولئك الذين يعانون اليوم

لطالما قاومت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع وصف إسرائيل بالدولة الأبارتهايد، أو اعتبار سياساتها في الأراضي الفلسطينية استعماراً استيطانيّاً، كما رفضت دعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، مع العلم أن المقاطعة لا تستهدف الأفراد الإسرائيليين المشاركين في الفعاليات الأكاديمية، بل تتبنّى مقاطعة مؤسّسية لجميع المؤسّسات الأكاديمية الإسرائيلية التي لا تعترف بحقوق الفلسطينيين، كما وردت في نداء حركة BDS، غير أن ضغوطاً متزايدة وصمت الجمعية الإسرائيلية لعلم الاجتماع (ISS) أمام المجزرة الجارية في غزّة دفعت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع إلى اتخاذ خطوة تاريخية وأخلاقية: تعليق العضوية الجماعية لـ"ISS". وإن تأخّر هذا، فإنه يتسق مع موقف سابق لـ"ISA" حين علّقت عضوية الجمعية الروسية إثر غزو أوكرانيا. إنه قرار عادل، ومتسق، لكنه يستدعي تأسيساً أخلاقيّاً أعمق.

بناء على ذلك، أقترح أن تعتمد "ISA" مدوّنة أخلاقية شاملة تتجاوز الإطار الفرداني لنموذج "DEI"، وتدين صراحةً كل أشكال الاحتلال وفق القانون الدولي وشرعية الأمم المتحدة، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والاحتلال الروسي لأوكرانيا. كما يجب أن يتحفّظ على قبول أي علماء ينتمون إلى مؤسّسات احتلالية تعمل في أراضٍ محتلة بأن يكونوا أعضاء في "ISA" أو يشاركون في نشاطاتها.

اعتبر هذا الموقف معقولاً ووسطياً بين "راديكاليتين"، كلاهما يفشلان في اجتياز الاختبار الأخلاقي. يقوم الأول على مفهوم مطلق للحرية الأكاديمية، فيرفض أي مقاطعة مؤسّسية حتى لو كانت المؤسّسة جزءاً من منظومة القمع، من خلال البحث العسكري، وبرامج تدريب الجنود، ودعم البنية التحتية للجيش، وقمع حرية الأكاديميين الفلسطينيين، تماماً كما توسّعت الأنثروبولوجية الإسرائيلية مايا ويند في كتابها "أبراج عاج وحديد: كيف تنكر الجامعات الإسرائيلية حرية الفلسطينيين" (2024). وتُعد الجمعية الألمانية لعلم الاجتماع (DGS) مثالاً حيّاً على هذا الموقف؛ إذ أصدرت بياناً خاطئاً حول موقف "ISS" وتدافع عن استمرار تمثيلها في "ISA"، رغم صمتها تجاه الإبادة والاحتلال.

وبحسب تحقيقٍ أجراه "علماء اجتماع عالميون من أجل فلسطين"، فإن "ISS" لم تُصدر أي بيانٍ يتضمّن إدانات واضحة للاحتلال أو الإبادة منذ عام 2023. بل اكتفت بإدانة التمييز ضد الفلسطينيين في الجامعات الإسرائيلية، من دون التطرّق إلى بنية الواقع الاستعماري برمته. وعلى النقيض، سبقت "ISS" سريعاً في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. وفي الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أصدرت بياناً وصفت فيه أحداث "7 أكتوبر" بأنها "إرهاب"، لكنها تجاهلت سياق الاحتلال والعنف الاستعماري الطويل في غزّة. ويُعدّ هذا التجاهل موقفاً سياسيّاً بحد ذاته. كما تحتفظ "ISS" بقسم "العسكرية والأمن"، الذي نظم جلسة بعنوان "أطلق النار ولا تبك" في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لتحليل استراتيجية العنف في غزّة والضفة الغربية. وكان رئيس أحد الشُعب، البروفيسور (المقدم احتياط) عوزي بن شالوم، قد خدم في الوحدة 8200 للجيش الإسرائيلي، ويقوم بأبحاث عسكرية. هذا كله مهم. في عالم عادل، حيث لا يُعامل العرب كإثنية دونية، لما تطلبت مقاطعة هذه المؤسسات شرحاً، مثل مقاطعة دولة أبارتهايد جنوب أفريقيا.

كنت آمل أن تعبّر "DGS" عن قلق أكبر بشأن تزايد حالات فصل الأكاديميين، خصوصاً الفلسطينيين وحلفائهم، من الجامعات الألمانية بذريعة "مكافحة معاداة السامية" (راجع مقالتي "الاستقطاب المجتمعي والحرية الأكاديمية في زمن الليبرالية الرمزية"، مجلة سياسات عربية، العدد 67، مارس/ آذار 2024). حين ألقيتُ محاضرة في أوسلو عن الحرب على غزّة، كرّر أحد الحضور الحديث عن معاداة السّاميّة الطافح في أوروبا، عازياً ذلك إلى المتظاهرين الذين يطالبون بوقف إطلاق النار في غزّة، وإلى حلّ سياسي للاحتلال الإسرائيلي. سألته عن معركة الجزائر في نهاية الخمسينيّات والإبادة الجماعيّة التي قامت بها ألمانيا في ناميبيا ببداية القرن العشرين، وما إذا كان من الطبيعي ادّعاء أنّ الجزائريِّين كانوا مناهضِين للفرنسيِّين، أو أنّ الناميبيِّين مناهضون للألمان، أو حتى إن كانوا مناهضِين للمسيحيّة.

اتخاذ موقف "راديكالي" ليس بالضرورة فضيلة. بدون وضوح أخلاقي، وتأمّل نقدي ذاتي، وفهم حسّاس للسياق، قد تتحوّل الراديكالية إلى دوغمائية

يدعو الشكل الثاني من "الراديكالية" إلى مقاطعة الأفراد. وهذا ينطوي على خطر التمييز بناءً على الجنسية. لقد دعا ناشطون إلى التحرّي/ المراجعة الأمنية (vetting) لكل أكاديمي إسرائيلي، واشتراط أن يصدُر بيانٌ يندّد بالاحتلال. لكن هذا الفحص، مهما كانت النيّات حسنة، غالباً ما يتحوّل إلى شكلٍ غير ليبرالي من الرقابة وأساس استبعاد حسب الجنسية، ففي جامعات، مثل جامعات أميركية كثيرة، أدّى هذا المنطق إلى استبعاد منظّم للسوريين والإيرانيين، بغضّ النظر عن آرائهم السياسية. ومن الممكن أن يصبح الأمر أسوأ: لا أعلم حتى إن كان هناك حظر على أشخاص بسبب مواقف نقدية تجاه إدارة الولايات المتحدة. المنهج الأكثر ليبرالية وحواراً يكمن في تمكين الأفراد من اتّباع ضمائرهم، حضوراً أو امتناعاً عن حضور جلسات كما يختارون، مميزين المتحدث الإسرائيلي الذي يقدّم خطاباً "بروباغندياً" أو خطاباً تحاورياً.

يقودني هذا إلى الجدل حول منتدى السوسيولوجيا العالمي 2025 في الرباط، الذي حضره أكثر من 4500 باحث، بينهم نحو 170 مغربياً و40 آخرين من العالم العربي. وبالرغم من قرار تعليق عضوية "ISS" من ISA، دعا ناشطون إلى مقاطعة المنتدى بالكامل (مشيرين إلى تطبيع المغرب وتعاونه العسكري مع إسرائيل). وبينما هذا الحذر مشروع، لم يتم بناء حملة المقاطعة على أساس محاكمات أخلاقية، بل على نقاء قانوني صلب لا يأبه للسياق والاعتدال ومبدأ "الأقل ضرراً".

من ناحية، ومع تهميش السوسيولوجيا العربية في الأكاديميات العالميّة، يمثل منتدى الرباط فرصة نادرة لعرقلة الهيمنة المركزية ولإدخال البحث العربي في حوار عالمي. كما أن توقيت الدعوة إلى المقاطعة (قبل ثلاثة أسابيع من المنتدى) جعلها غير واقعية لمشاركين عديدين، بمن فيهم صاحب هذه المقالة، ممن سبق أن دفعوا رسوم التسجيل والحجز وتذاكر الطيران التي لا يُردّ جزء كبير منها.

من ناحية أخرى، هناك من يدعو إلى إرسال رسالة واضحة إلى "ISA" والسلطات المغربية: طالما أن إسرائيل تعمل كدولة احتلال استيطاني، فلا بد أن تُطبق مبادئ حركة BDS بلا تحفظ. ومن هذا المنظور، ليس كافياً استهداف الجلسات المشاركين الإسرائيليين فقط، بل تُعتبر مقاطعة المنتدى بكامله موقفاً أخلاقيّاً يصب في خدمة الحقوق الفلسطينية.

في ظل ما تصفها مؤسّسات حقوق الإنسان الدولية بالإبادة في غزّة، يجب أن نعيد النظر النقدي في دور المؤسّسات الأكاديمية في مواجهة العنف البنيوي والاستعمار الاستيطاني

ولاحظنا بروز تناقض بين فريقين: واحد يُفضّل المقاربة القانونية الجامدة، والآخر يُؤكد على الحجاج الأخلاقي والسياسي. فالأول غالباً ما يتبنى مواقف صارمة، متردداً في الاعتراف بالغنى الأخلاقي والرمزي للمقاطعة باعتبارها أداة استراتيجية، ووسيلة لدعم الحقوق الفلسطينية ومواجهة الهياكل القمعية، وليست هدفاً بحد ذاتها. وهذا الاختلاف يعكس نقاشاً أعمق بشأن دور الانخراط الأكاديمي في سياقات الظلم البنيوي: ليس فقط في نقده وإدانته ولكن فتح فضاء للتحاور.

وليس هذا التعنت القانوني بجديد: فقد ظهر انقسام مشابه في وقت سابق من هذا العام بشأن الفيلم الفلسطيني – الإسرائيلي الحائز على أوسكار "لا أرض أخرى" (No Other Land)، فهناك من نادى بمقاطعته ودان الفيلم بسبب أحد مصادره التمويلية، في حين رآه آخرون عملاً نقدياً مهمّاً في كشف الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي في ظلّ النضال الملحّ اليوم لوقف الإبادة الجماعية في غزّة. وقد عقلنت مجلة الدراسات الفلسطينية هذا الجدل، بتخصيص محور خاص من سبع مقالات، منها ما يؤيد المقاطعة ومنها ما يرفضها (عدد 143).

والمفارقة أن مدافعين عن نظرية ما بعد الاستعمار والديكولونالية (تفكيك الاستعمار) لا يدركون أن المشاركة في المنتديات الأكاديمية العالمية بحد ذاتها فعل ديكولونالي وفرصة لتحدّي المركزية الأوروبية، ولإبراز أصوات الشعوب المستعمَرة وبالذات أولئك الذين يعانون اليوم.

خلاصة القول، اتخاذ موقف "راديكالي" ليس بالضرورة فضيلة. بدون وضوح أخلاقي، وتأمّل نقدي ذاتي، وفهم حسّاس للسياق، قد تتحوّل الراديكالية إلى دوغمائية. ولهذا اخترت لهذا النص عنواناً: راديكالية ولكنها خاطئة.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية