صحيفة الوطن الجزائرية: تجربة تقدمية حافلة بالتحوّلات
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

عند المدخل الأول لدار الصحافة الواقعة في منطقة أول مايو وسط العاصمة الجزائرية، تبرز لافتة تشير إلى مقر صحيفة الوطن الفرنكوفونية. لا يعكس هذا المقر، من حيث المظهر، حجم الصحيفة وتأثيرها وأهميتها في المشهد الإعلامي المحلي. فمن داخل هذا المبنى المتواضع، انطلقت واحدة من أبرز التجارب الإعلامية التقدمية في الجزائر.

بعد انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول 1988، أقرّ قانون الإعلام الجديد الذي سمح بتأسيس صحف مستقلة، ومنح الصحافيين العاملين في الصحف العمومية إمكانية الحصول على دعم لإطلاق تجارب إعلامية خاصة، قررت مجموعة من الصحافيين، من بينهم عمر بلهوشات وعمار بلحيمر الذي صار لاحقاً وزيراً للاتصال، تأسيس صحيفة الوطن.

تبنّت الصحيفة منذ بداياتها خطاً تحريرياً تقدمياً يدعم الحريات والقضايا الديمقراطية، ويعارض التيارات المحافظة، خصوصاً التيار الإسلامي. كان هذا الموقف امتداداً لنشاط العديد من مؤسسي الصحيفة، الذين سبق أن كانوا جزءاً من حركة الصحافيين الجزائريين قبل عام 1988، أو مرتبطين بحزب الطليعة الاشتراكية (الحزب الشيوعي الجزائري سابقاً).

لكن الجزائر دخلت في مطلع تسعينيات القرن الماضي أزمة أمنية دامية عقب توقيف المسار الانتخابي في يناير 1992، وهو موقف أيدته "الوطن" صراحة. وقد تعرض مدير تحريرها عمر بلهوشات لمحاولة اغتيال من قبل متشددين، نجا منها، وهو الأمر الذي عزز موقع الصحيفة في صفوف معارضي الحوار مع الإسلاميين، وقربها من بعض الدوائر الأمنية.

وفي صيف 1998، لعبت صحيفة الوطن دوراً محورياً في حملة إعلامية استهدفت شخصيات بارزة في محيط الرئيس ليامين زروال، مثل الجنرال محمد بتشين ووزير العدل محمد آدمي، من قبل إحدى الجهات في السلطة. وصلت الرسالة آنذاك للرئيس، الذي أعلن تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة مطلع عام 1999.

ومع بداية حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، اصطدمت "الوطن" بمسار المصالحة الوطنية، الذي أطلقه مع الإسلاميين والمسلحين، فعارضته بقوة، ما أدى إلى سلسلة مضايقات طاولت الصحيفة. وفي يونيو/ حزيران من عام 2000، كانت الصحافية في "الوطن" غنية عكازي، جزءاً من وفدٍ صحافي جزائري زار تل أبيب، واتهمهم بوتفليقة، آنذاك، بالخيانة دون اتخاذ إجراءات مباشرة ضدّهم. أما في انتخابات 2004، فقد دعمت الصحيفة، بدفع من جهات داخل الجيش، رئيس الحكومة السابق علي بن فليس الذي كان مرشحاً في وجه بوتفليقة.

كان لهذا المنعطف تأثير سلبي بصدقية الصحافة المستقلة والحرة في الجزائر، وأضرّ بالمسألة المهنية بشكل خاص، ووضع الصحافة الجزائرية في قلب تجاذبات أجنحة السلطة. مع ذلك بقيت صحيفة الوطن من أكثر الصحف تأثيراً بالنخب المحلية في الجزائر، خصوصاً عبر تفردها بالحصول على السبق الصحافي في قضايا سياسية وأمنية. كذلك حافظت على المركز الثاني من حيث المبيعات بين الصحف الفرنكوفونية. ولقيت "الوطن"، إلى جانب صحيفة الخبر الصادرة بالعربية، انتشاراً خارج الجزائر، خصوصاً في فرنسا. وكانت الخطوط الجوية الفرنسية توزع الصحيفة على رحلاتها اليومية، في شكل من أشكال الدعم السياسي للصحافة الفرنكوفونية الجزائرية.

ورأى الصحافي محمد إيوانوغان، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "الجرأة المهنية الواضحة كانت وراء نجاح تجربة الوطن"، مضيفاً: "بالنسبة إليّ، عمر بلهوشات من أفضل المسيرين الذين عرفتهم في الصحافة الجزائرية، وكان يتمتع بجرأة كبيرة في قيادة الصحيفة إلى الأمام، مع زميله علي جري، مدير صحيفة الخبر". وأوضح قائلاً: "لقد أحدثا ثورة حقيقية في العمل الصحافي من خلال تحقيق الاستقلالية التحريرية واللوجستية، بما في ذلك إنشاء مطابع خاصة بعيداً عن سيطرة الدولة".

برزت أسماء عديدة في تجربة "الوطن"، من بينها الصحافية سليمة تلمساني التي تألقت في تغطية الأخبار السياسية والأمنية، والكاتب شوقي عماري من خلال عموده اليومي، إلى جانب فيصل ميطاوي في الصفحات الثقافية، وأكرم خريف في القضايا الجيوسياسية. وفي مرحلة لاحقة، بدأت الصحيفة إصدار ملحق أسبوعي على هيئة مجلة أشرف عليها الصحافي عدلان مدي. كذلك كانت من الصحف القليلة التي فتحت صفحاتها للنخب السياسية والعسكرية المتقاعدة المنتقدة لسياسات النظام، خصوصاً قبيل نهاية عهد بوتفليقة.

في عام 2018، منعت السلطات صحيفة الوطن من استغلال مقرها الجديد بحجة وجود مخالفات في البناء، إلا أن ذلك كان في نظر الكثيرين حجةً تخفي موقفاً سياسياً من الصحيفة. لاحقاً، مع اندلاع الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2019، كانت "الوطن" من بين الصحف القليلة التي واظبت على تغطية التظاهرات حتى توقفها في ربيع عام 2020.

ومع تولي عبد المجيد تبون الحكم، بدا أن هناك انفتاحاً في العلاقة مع الإعلام، لكنه كان مشروطاً ومصحوباً بضغط أكبر على الصحف الناقدة. المفارقة اللافتة أن عمار بلحيمر، أوّل مدير تحرير للصحيفة، كان وزيراً في أوّل حكومة لتبون، ومسؤولاً عن سياسات إعلامية أضرت بـ"الوطن".

ورأى الصحافي نور الدين خليفة، الذي عايش بدايات الصحافة المستقلة وتطورها في الجزائر، أن "الخط التحريري لصحيفة الوطن، الذي كان واضحاً منذ انطلاقتها، هو ما جعلها تدفع ثمن مواقفها ومعالجاتها". كذلك أشار إلى أن الصحيفة، كغيرها من الصحف المستقلة، عانت من مأزق العلاقة المعقدة مع السلطة من جهة، ومن جهة أخرى من تصورات السلطة للإعلام عموماً".

شهدت نهاية عام 2021 أعقد الأزمات في تاريخ الصحيفة، وجاءت على مستويين: الأول تدهور علاقتها بالسلطة التي جمّدت حسابات "الوطن" البنكية بسبب ضرائب متراكمة بلغت نحو 300 ألف يورو، كذلك قطعت عنها الإعلانات. أما الثاني، فكان مشكلة داخلية بين الإدارة والصحافيين، دفعهم إلى الإضراب في يوليو/ تموز 2022. أدى ذلك إلى توقف الصحيفة عن الصدور لبعض الوقت، قبل أن تستعين الإدارة لاحقاً بمحررين من خارج فريق التحرير لإعادة إصدار الجريدة.

في النهاية، دفعت الضغوط إدارة الصحيفة إلى التقرب من السلطة لأول مرة، حيث أبرمت تفاهمات غير معلنة مع الوكالة الوطنية للإعلان، مقابل الحصول على حصة من الإعلانات العمومية. وسرعان ما ظهرت صفحات كاملة من الإعلانات الحكومية في الجريدة، تزامناً مع تغير ملحوظ في خطها التحريري، إذ تحوّل إلى خطاب داعم لسياسات الرئيس عبد المجيد تبون، وهو ما تجلى في عنوانها الذي صدم القراء في العام الثالث من عهدته: "تبون على كل الجبهات".

لكن هذا التحول لم ينهِ الأزمة المالية، فقد عبرت هيئة تحرير صحيفة الوطن في افتتاحية نُشرت الاثنين الماضي، عن احتمال توقفها النهائي بعد 35 عاماً من الصدور، بسبب "الوضع المالي الخطير الذي تعيشه، والذي يحول دون مواصلة رسالتها الصحافية". وأشارت هيئة التحرير إلى "قيود موضوعية، على رأسها نضوب مصدر دخلها الرئيسي، أي الإعلانات، على مدى السنوات العشر الماضية"، مضيفةً أنها لم تتلقَّ أي حصة من الإعلانات الحكومية طوال أكثر من عام، وتتعرض لـ"معاملة تمييزية من قبل الوكالة الوطنية للإشهار".

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية