
Arab
في تصعيد غير مسبوق، اتهمت الدنمارك رسمياً روسيا بشن "حرب هجينة" ضدها وضد أوروبا، محذّرة من هجوم غير تقليدي يستهدف "البنى التحتية، والأجواء، والعقول". وجاء الاتهام خلال مؤتمر صحافي عقده صباح اليوم الجمعة وزير الدفاع ترويلز لوند بولسن ورئيس الاستخبارات العسكرية توماس أهرينكيل، مؤكدَين أن موسكو تقود حملة متعددة الأدوات تشمل اختراقات جوية، وتخريباً بحرياً، هجمات سيبرانية، وعمليات تضليل إعلامي.
هذا التطور المقلق كان محور قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة، وسط إدراك متزايد بأن الحروب الهجينة لم تعد سيناريوهات نظرية، بل واقع استراتيجي يهدد شمال أوروبا ودول البلطيق، حيث تُتهم روسيا بتقويض الاستقرار دون اللجوء إلى حرب تقليدية، بل عبر تكتيكات خفية وفعالة.
موسكو على خط المواجهة: حرب غير معلنة بأسلحة متطورة
وقال أهرينكيل في المؤتمر الصحافي إن روسيا لا تسعى لحرب مباشرة، بل تهدف إلى "ترسيخ حالة من التوتر والخوف المستمر. إنها حرب على الاستقرار والمعنويات". وعدّد أبرز مظاهر الهجوم الروسي الهجين بالقول: تحليق طائرات مسيّرة مجهولة فوق منشآت عسكرية ومدنية، وتخريب الكابلات البحرية في بحر البلطيق، والاستفزازات المتكررة من طائرات وسفن روسية. في حين قال زير الدفاع الدنماركي بولسن إن "التهديدات الهجينة ستستمر، بل قد تتفاقم"، داعياً إلى تعزيز الدفاع الأوروبي ووضع تقييم جديد شامل لهذا النوع من التهديدات.
في تطور لافت، سخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الاتهامات الأوروبية، خلال مشاركته في منتدى "فالداي"، قائلاً إن "بعض العواصم باتت تخاف من ألعاب أطفال تُحلّق فوق رؤوسها"، مضيفاً بتهكّم: "لن أرسل شيئاً لا إلى فرنسا، ولا إلى الدنمارك... كل هذا لرفع ميزانيات الدفاع في أوروبا". واعتبر مراقبون أن تصريح بوتين إنكار متعمّد يُخفي خلفه استراتيجية "النفي العلني مع استمرار الأنشطة التخريبية في الخفاء"، بهدف إرباك الخصوم وتعطيل ردودهم السياسية.
المسّيرات تحت المجهر: اختراق أمني يهزّ كوبنهاغن
وشهدت الدنمارك وجارتها النرويج في الأسابيع الأخيرة سلسلة حوادث أمنية غير مسبوقة، أبرزها تحليق طائرات مسيّرة مجهولة فوق مطار كوبنهاغن والمنشآت العسكرية الحساسة، ما أدى إلى تعليق الرحلات الجوية وتفعيل خطط الطوارئ. ووصف النائب الأوروبي الدنماركي فيلي سوفندال تلك الأحداث بأنها "إهانة صريحة"، مؤكداً أن "لا أمن لأوروبا ما لم نحسم أمن أجوائنا أولاً".
وردّاً على التصعيد، أعلنت الحكومة الدنماركية حزمة إجراءات عاجلة، أبرزها فرض حظر مؤقت على استخدام الطائرات المسيّرة المدنية، وتخصيص 58 مليار كرونة (نحو تسعة مليارات دولار) لشراء أنظمة دفاع جوي متطورة (تترك حكومة فريدركسن الأبواب مواربة لشراء أنظمة دفاع من دولة الاحتلال الإسرائيلي، بحجة أنها سريعة التسليم)، وبحث التعاون مع أوكرانيا في مجال مكافحة المسيرات، نظراً لخبرتها الميدانية، ونشر طائرات مراقبة بحرية بدون طيار في بحر البلطيق، لحماية الكابلات والبنى التحتية الحيوية.
"جدار الطائرات المسيّرة": من مشروع مرفوض إلى أولوية أوروبية
ظهر في القمة الأوروبية مجدداً مشروع "جدار الطائرات المسيّرة"، الذي اقترحته دول البلطيق منذ عام 2023، ورفضه الاتحاد الأوروبي آنذاك لاعتبارات مالية، لكن سلسلة الاختراقات الأخيرة، خصوصاً في بولندا ورومانيا والدنمارك، دفعت بروكسل لإعادة النظر فيه. ويتكوّن المشروع من: نظام مراقبة متعدد الطبقات يعمل بالذكاء الاصطناعي، وطائرات اعتراضية آلية على الحدود، وأقمار اصطناعية ومنصات تحييد متنقلة، وأنظمة استجابة فورية. لكن وزير الدفاع الدنماركي نبّه إلى محدودية الجدوى الجغرافية من الجدار، قائلاً: "الجدار يركّز على الشرق، بينما الهجمات قد تنطلق من داخل أراضينا. يجب التفكير بطريقة أوسع".
قمة كوبنهاغن تكشف انقساماً أوروبياً
وكشفت قمة كوبنهاغن عن تصدّع واضح في الصف الأوروبي بشأن الرد على التهديدات الهجينة. ففي حين دعت المفوضية الأوروبية إلى تسريع بناء "جدار الطائرات المسيّرة"، معتبرةً ما يحدث في بولندا وإستونيا والدنمارك دليلاً على الحاجة الملحّة له، شدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على أن الرد لا يمكن أن يكون دفاعياً فقط. وطالب باعتماد استراتيجية شاملة تشمل أنظمة إنذار مبكر، وقدرات هجومية بعيدة المدى، وتنسيقاً استخباراتياً عابراً للحدود. في المقابل، يواصل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان عرقلة الإجماع الأوروبي، مستخدماً "الفيتو" لتعطيل ملفات استراتيجية، أبرزها: رفضه فتح فصول جديدة لانضمام أوكرانيا، ومعارضته استخدام الأصول الروسية المجمدة لدعم كييف، إلى جانب تشكيكه العلني في سيادة أوكرانيا كدولة.
هذا الانقسام أدخل الاتحاد في حالة "شلل مؤسساتي"، دفعت بعض القادة للمطالبة بتجاوز قاعدة الإجماع التقليدية واعتماد تصويت الأغلبية، وهو ما تصطدم به تحفظات دول كفرنسا وهولندا، التي تخشى المساس بسيادتها العسكرية في ملفات الأمن والتوسعة.
التحديات المقبلة: تمويل متعثر وقمة حاسمة في بروكسل
ورغم اعتبار "جدار الطائرات المسيّرة" مشروعاً رائداً، لا يزال تمويله الكامل غير مضمون. كذلك تُثير مقترحات توجيه الأصول الروسية المجمدة نحو دعم أوكرانيا خلافات حادة، خصوصاً من جانب فرنسا وبلجيكا. وعلى الجانب الآخر، خصصت المفوضية الأوروبية مؤخراً نحو ملياري يورو لتطوير تقنيات الطائرات المسيّرة في أوكرانيا، معتبرة إياها مختبراً حيّاً للابتكار الدفاعي. وقالت رئيسة الوزراء الدنماركية ميتا فريدركسن خلال قمة كوبنهاغن "إذا لم نتسلح الآن، فستواجه أوروبا أخطر وضع منذ الحرب العالمية الثانية"، فيما نوقشت مبادرات لتقوية التعاون الدفاعي مع دول خارج الاتحاد، مثل بريطانيا وأوكرانيا، في إشارة إلى إعادة تعريف مفهوم الشراكة الأمنية الأوروبية.
نحو استراتيجية دفاعية أوروبية جديدة
الحرب الهجينة التي تواجهها أوروبا ليست حالة طارئة، بل اختبار طويل الأمد لقدرة الاتحاد الأوروبي على الدفاع عن أمنه ووحدته السياسية. ولتجاوز التحديات الراهنة، أوصت القمة الأوروبية بتوحيد القدرات الاستخباراتية والعسكرية عبر الدول الأعضاء، وتطوير أنظمة إنذار مبكر وقدرات ردع هجومية، وتمويل مشترك للمشاريع الدفاعية الحساسة مثل جدار الطائرات المسيّرة، وتبني استراتيجية أمنية شاملة تشمل الحرب السيبرانية والمعلوماتية، وإصلاح آليات اتخاذ القرار الأوروبي لكسر الجمود السياسي ومنع التعطيل المتكرر.
عموماً، تبدو القارة الأوروبية اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخ أمنها الجماعي، وقد تُعيد تشكيل العقيدة الدفاعية لعقود قادمة. والأنظار تتجه الآن إلى قمة بروكسل المرتقبة في 23 و24 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، والتي قد ترسم ملامح الرد الأوروبي الموحد على أخطر تهديد أمني منذ الحرب الباردة.

Related News

عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
alaraby ALjadeed
15 minutes ago