
Arab
نقش سلوان مكتوبٌ بخطّ كنعاني ولهجة كنعانية، وهو وثيقة تاريخية فلسطينية عن حفر أهل القدس نفقاً لجلب المياه من عين سلوان إلى مدينة القدس، ولا يذكر النقش حزقيّا ولا علاقةً باليهود. وهو ملكية تراثية فلسطينية، ويأتي الحديث عنه في إطار الصراع مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وهو صراع على المكان والزمان، وهنا هو صراع على السردية الثقافية. محاولة رئيس حكومة دولة الاحتلال، نتنياهو، الحصول على النقش من تركيا قديمة حديثة، وتأتي إعادته، في الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) المطالبة به ضمن توظيف علم الآثار لإعطاء شرعية لدولة الاحتلال بناءً على أسس توراتية قديمة.
وتحاول الدولة العبرية ابتزاز تركيا لتسليمها "نقش سلوان" منذ 1948، فقد حاول نتنياهو هذا في 1998، وطلب النقش من رئيس الحكومة التركية مسعود يلماز الذي رفض ذلك، وكذلك حاول شمعون بيريز حين طلب استعارة النقش سنة 2007 ليعرضه بمناسبة 60 سنة على إقامة الدولة العبرية، ورُفض طلبه. وها هو نتنياهو يحاول اليوم ابتزاز الدولة التركية وأردوغان بالذات ويطالب بتسليم النقش.
قصة الاكتشاف
يتحدّث نقش سلوان عن عملية حفر نفق استُخدم لجلب مياه نبع أم الدرج، وتسمّى أيضاً عين العذراء أو جيحون، إلى بركة داخل أسوار مدينة القدس. لا يذكر النقش الملك حزقيّا التوراتي الذي تُلصق به "تهمة" بناء هذا النفق.
واكتشف النقش مصادفةً في العام 1880 في داخل نفق سلوان. وبعد فترة قصيرة من اكتشافه (نحو العام 1891) اقتلع من مكانه الأصلي في النفق بواسطة شخص يوناني كان مقيماً في القدس، أراد أن يبيعه بناء على معلوماتٍ من كتاب للعالم الإسرائيلي أحيتوف. وفي أثناء عملية خلعه من مكانه في حائط النفق، كان النقش قد تكسّر إلى ستّ قطع أو سبع. وأعيد ترميم نَصّ النقش بناءً على نسخة الاستنباج التي صنعها، بعد وقت قصير من اكتشاف النقش، المهندس المعماري السويسري كونراد شيك، المقيم آنذاك منذ فترة طويلة في القدس. ثمّ نُقل الحجر المُرمَّم الذي كتب عليه النقش إلى إسطنبول، وهو معروض حالياً في متحف آثار الشرق الأدنى القديمة.
نقش سلوان ملكية تراثية فلسطينية، والحديث عنه يأتي في إطار الصراع مع المشروع الصهيوني على المكان والزمان
اختفت بعض معالم النقش بسبب طبقات الطمي المتراكمة عليه. وكان نُقِش في الطرف الغربي من النفق على بعد حوالى ستة أمتار من المخرج إلى بركة سلوان في المنطقة الغربية من نهاية التلال التي يسمّيها الإسرائيليون اليوم باسم "مدينة داود".
ارتفاع النقش 50 سنتيميتراً، وعرضه 66 سنتيميتراً، وكان النقش قد كتب في مساحة مستطيلة نُعّمت على شكل لوحة حجرية لهذا الغرض، ونحتت في الصخر على نحوٍ بارز، فيما بقيت ملتصقةً بالحائط.
ويتكوّن نصّ نقش سلوان من ستّة أسطر نقشت بطريقة التحزيز بأحرفٍ جميلة نسبياً، وظهرت في خطوط مستقيمة في النصف السفلي من تلك اللوحة الحجرية التي جرى تنعيمها مسبقاً. نوعية الصخر هي من الحجر المِزِّي الصلب. ربّما جهّزت المنطقة المصقولة ليكتب عليها نصّ أطول. وقد عثر على مساحة للوحتَين أخريَين في داخل النفق، قد تكون أُعدت ونُعّمت ليكتب فيها.
صاحب النقش
بالرغم من أنّ النقش لا يذكر أسماء مَن حفروا النفق، ولا يذكر الملك التوراتي حزقيّا (727 - 698 قبل الميلاد)، أو غيره من الحكّام، ولا يذكر سنة نقشه، إلّا أنّ البعض يفترض أنّ النقش كتبه حزقيّا، أو أنه كُتب زمن حكمه وبناءً على تعليماته. فهل حزقيّا حقيقةً هو صاحب النقش؟
اللاهوتيون وعلماء الآثار الإسرائيليون يجمعون على أن صاحب النقش هو الملك التوراتي حزقيّا، ويعتمدون في ذلك على ما جاء في التوراة من أن الملك حزقيّا هو مَن حفر النفق (ملوك الثاني: 20). لكنّ التوراة لا تذكر تفاصيل عن المكان. يجب أن نضع جانباً قصة التوراة المتعلقة بحفر حزقيّا نفقاً، فهي على ما يبدو متخيّلة، وجاءت متأخّرةً لتمجيد حزقيّا. وقصّة النقش واضحة من خلال النصّ نفسه، وهي قصة فريدة من نوعها، تتحدّث عن مجموعة من المهندسين والعمّال من أهل القدس، الذين وثّقوا نجاحهم في حفر النفق ليجلبوا الماء إلى مدينتهم. وهذه التقنية معروفة من مدن كنعانية مختلفة، مثل حاصور وبلعمة ومجدّو، ويبدو أنه ليس هناك أيّ أثر من أيّ حاكم في سير عملية حفر نفق سلوان.
قد يفترض المرء أن نقشاً أمر الحاكم أو الملك بكتابته لتمجيد اسمه، فكان سيوضع اسمه عند مدخل النفق. وحقيقة الأمر أن النقش يقع داخل النفق، وغياب الأسماء يعزّز الافتراض بأنّ هذا كان جهداً جماعياً من أهل مدينة القدس، ويبدو أن موقع النقش في داخل النفق هو عن قصد من الحجّارين، وبعيداً عن استعراضات الحكّام ونصبهم التذكارية. وهنا يتّضح أنّه لا علاقة لهذا النقش لا بحزقيّا ولا بغيره من الحكّام التوراتيين، وهنا على ما يبدو، ليس للنقش ولا النفق علاقة لا بحزقيّا ولا بعصره.
والنصّ بعد نقله إلى العربية على النحو الآتي: 1. (هذا ما حدث ...) النفق، وهذه هي قصة النفق، بينما كان الحجّارة يعاودون (الحفر). 2. بالمعول، كل منهم باتجاه رفيقه، وبينما كان لم يتبقَّ إلّا ثلاثُ أذرع للحفر، سُمِعَ صوت رجل ينادي. 3. على رفيقه، لأنه كان هناك شقٌ (؟) في الصخر من اليمين ومن الشمال. وفي يوم. 4. فتح (ثغرة) النفق كان كل من الحجّارة يحفر باتجاه رفيقه والمعول على المعول. 5. ثم تدفق الماء من مخرج (النفق) باتجاه البركة، (بمسافة) 1200 ذراعاً. 6. وكان ارتفاع الصخر فوق رؤوس الحجّارين مئة ذراع.
ولا يوجد اتفاق تام بين العلماء على نوعية الخطّ، ولا على هُويَّة اللغة. يصفه بعضهم بأنه مكتوب بخطّ فينيقي أو كنعاني (ويصفه بعضهم بعبري قديم) وبلغة كنعانية. وهذا هو النقش الوحيد من منطقة أواسط فلسطين من فترة من القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد، ويفضّل استخدام مصطلح خطّ كنعاني.
يمكن وصف لغة النقش بأنها من اللهجات الكنعانية القديمة، وتتقاطع مع الفينيقية والأوغاريتية، وأقرب لغة لها هي عبرية التوراة. والكلمة الأساسية في النقش "نقبه"، بمعنى "نفق"، غير موجودة بهذه الصيغة في العبرية ويمكن قراءتها "نقوبة". ويحوي النصّ كلمةً عبرية غير معروفة من الكتاب المقدّس أو من أي مصدر آخر، وهي كلمة "زده"، التي لا يستطيع اللسانيون تفسيرها إلّا من سياق النص. وحسب السياق، يبدو أن معنى الكلمة "صدع" أو "شرخ دقيق" في الصخر استخدمه الحجَّارون علامةً دلّت على مسار الحفر. وهذا هو النقش الوحيد من منطقة أواسط فلسطين من فترة من القرنَين الثامن والسابع قبل الميلاد.
لا علاقة لنقش سلوان بحزقيّا، ولا بغيره من الحكّام التوراتيين
نفق سلوان في ضوء الحفريات الحديثة
السائد أن نقش سلوان يعود إلى نهاية القرن الثامن قبل الميلاد، أو بداية السابع قبل الميلاد، بناءً على أشكال الخطّ فقط، وبعضهم ينسبه إلى العصر الهلنستي. ومنذ اكتشاف نفقه، والنقش المحفور في جداره، والغالبية العظمى من الباحثين يعتبرونه جزءاً من عمل الملك حزقيّا، وقد أصبح الأمر بمثابة فاصلة كرونولوجية في تاريخ فلسطين في العصر الحديدي (نحو 700 قبل الميلاد). ولعلّ نتائج الحفريات الحديثة التي قام بها روني رايش وشكرون، بالقرب من عين ستّنا مريم وما يسمونها "مدينة داود"، قد توصّلت إلى نتائج جديدة تسمح بإعادة النظر في تاريخ إنشاء النفق وكتابة النقش. وبناء على دراساتهم الأولية، فهم يقترحون أن النفق والنقش يعودان إلى عقود طويلة من حكم حزقيّا، وعلى الأقل إلى بدايات النصف الأول من القرن الثامن قبل الميلاد.
أظهرت نتائج الحفريات أخيراً في منطقة رأس النبع أن نظام مياه معقّداً دشّن لجلب مياه الينابيع إلى مدينة القدس للمرّة الأولى خلال العصر البرونزي الوسيط (حوالى 1700 قبل الميلاد) وترافق ذلك مع بناء تحصيناتٍ للمدينة، وحفرت بركة في الصخر. وقد أثبتت الحفريات، على طريقة استخدام تقنية الكرونولوجيا في الحفريات، أنّ لهذه المنشأة المائية مراحل تاريخية. وفي هذا الوقت، كانت القناة الثانية المحفورة في الصخر قد حوّلت مياه الينابيع جنوباً في طول الوادي نحو خزّان غير مكتشف بعد. يؤرخ هذا النظام المائي للعصر البرونزي الأوسط، ويظهر من خلاله الهيدرولوجيا والهندسة الرائعة ومعارف الكنعانيين في بناء الأنفاق المعروفة في مدن أخرى مثل تلّ المتسلم (مجدّو) وتلّ القدح (حاصور) وبلعمة، قرب جنين.
وعلماء الآثار من الإسرائيليين (منهم من رايش وشكرون)، الذين حفروا في الموقع، وصفوا نتائج الحفريات بأنّ هناك قناةً ونفقاً (القناة الثانية وقناة حزقيّا)، وهي قناة مسقوفة جزئياً، إضافة إلى نفق محفور في الصخر يحمل الماء من النبع إلى أسفل وادي قدرون. هذه القناة مرتبطة بقناة أخرى وبقايا كنعانية اكتشفت في المنطقة المحيطة، وتعود إلى القرنَين الثامن عشر والسابع عشر قبل الميلاد، والنفق المعروف بنفق سلوان أو ما يسمّى شيلوح، نُحت خلال فترة لاحقة، ربّما بداية القرن الثامن قبل الميلاد، ويتبع النظام المائي المعروف من العصر البرونزي المتوسّط، ويعتقد أنه حمل مياه الينابيع إلى خزّان في الطرف الجنوبي لمدينة القدس، إذ كان من الممكن جمع الماء واستخدام أيّ فائض لريّ الحدائق. هذا النفق هو أيضاً المعروف في العهد القديم باسم "نفق حزقيّا"، استناداً إلى الإشارات الكتابية إلى بركة وقناة بناهما هذا الملك. ويُقحم هنا نقش سلوان، ويوصف بأنه عبري قديم نُحِت في جدار النفق، وبأنه يمثّل الإنجاز الفنّي، ويعترفون أنّه لم يذكر اسم الملك.
أهمية النقش فلسطينياً... وتحريفٌ صهيوني
اعتبر الباحثون عملية اكتشاف نفق سلوان والنقش (وما زالوا) أول مصادقة من نوعها في تاريخ علم الآثار، وأنه حدث توراتي كبير، وربط الباحثون النقش والنفق بحزقيّا ملك يهودا التوراتيّ، وبأن حفر النفق كان استعداداً للدفاع عن المدينة ضدّ هجمات سنحاريب، ملك أشور، على فلسطين، المذكورة في التوراة، ويصفونها بالوشيكة (2 ملوك 18: 13-37؛ 19: 1- 36؛ 2 أخبار 32: 3-4، 30). هذا الربط بين الملك حزقيّا ونفق الماء والنقش سرعان ما تحوّل ربطاً ثابتاً لتاريخ المنطقة أواخر العصر الحديدي الثاني، ومحوراً تاريخياً مهمّاً. وبما أنه لم يُعثر على نقوش طويلة في القرن الثامن قبل الميلاد، حاز هذا النقش نوعاً من القداسة عند علماء اللاهوت والصهاينة، ومن هنا، جاء اهتمام العلماء والسياسيين الإسرائيليين بالحصول على النقش من إسطنبول. رغبة الدولة العبرية في الحصول على نقش سلوان ونفقها، لها منطلق سياسي، إذ تريد إحياء ما تُسمّى "حديقة داود".
وبالرغم من أنّ معظم الدراسات اللاهوتية الإسرائيلية تربط النقش والنفق بالملك حزقيّا، إلّا أن الأمر غير دقيق. ويبدو أن النقش يوثّق مرحلةً محدّدةُ من المنشأة المائية في العصور القديمة، وهو الجزء المسمّى "نفق سلوان"، وقد تكون في بداية القرن الثامن قبل الميلاد. وأظهرت الحفريات أن المنشأة المائية التي ارتبطت بعين ستّنا مريم، وكانت المصدر الأساس لتزويد مدينة القدس في العصور القديمة، بنيت (وحفرت) في مراحل مختلفة. يظهر من خلال نفق سلوان الهيدرولوجيا والهندسة الرائعة ومعارف الكنعانيين في بناء الأنفاق.
قصة النقش واضحة من خلال النصّ نفسه، وتتحدّث عن مجموعة من المهندسين والعمّال من أهل القدs
وهذه دعوة إلى الاهتمام بدراسة أثرية لنقش سلوان والنفق وعين ستّنا مريم، فكثير ممّا هو موجود من عشرات الدراسات مؤدلج، ويتبع علم الآثار الاستعماري وجناحه التوراتي، ويجب التحرّر من السردية التوراتية في كتابة تاريخ فلسطين. ويمثّل النقش وثيقة تاريخية فلسطينية بامتياز، يتحدّث عن توثيق عملية قام بها أهل القدس، وبالذات مجموعة من العمّال الحجّارين، وكيفية حفرهم نفقاً لجلب المياه إلى داخل المدينة. وهذا النقش تراث فلسطيني قديم، عمره على الأقلّ نحو 2700 سنة، وهو ملكية فلسطينية تتبع مدينة القدس، نقلت إلى متحف إسطنبول، ووضعت فيه أيام الدولة العثمانية، وتجب المطالبة به من الدولة التركية الصديقة للشعب الفلسطيني، واسترجاعه ووضعه في أيّ متحف فلسطيني، ولا علاقة لهذا النقش بالتاريخ التوراتي.
قال المقدسي البشاري في وصف سلوان، إحدى المعالم الجغرافية للقدس: "سلوان محلّة في ربض المدينة، تحتها عين عذيبية تسقي جناناً عظيمة، أوقفها عثمان بن عفان على ضعفاء البلد، تحتها بئر أيوب. ويزعمون أن ماء زمزم يزور ماء هذه العين ليلة عرفة". وجاء في كتاب "سفر نامه" لناصر خسرو: "وحين يسير السائر من المَدينة جنوباً مسافة نصف فَرسَخ، وينزل المنحدر يجد عين ماء تنبع من الصخر تسمّى عين سلوان، وقد أُقيمَت عِندهَا عمارات كثيرة، ويمرّ ماء هذه العين بقرية شيدوا، فيها عمارات كثيرة وغرسوا بها البساتين، ويُقال إن مَن يستحمّ من ماء هذه العين يشفى ممَّا ألمَّ به من الأوصاب والأمراض المزمنة، وقد وقفُوا عليهَا مالاً كثيراً".
(آثاري فلسطيني في فرانكفورت)

Related News

عامان على الإبادة... شهادات الصحافيين في الميدان
alaraby ALjadeed
17 minutes ago