
نشر نزار قباني، عام 1954 في مجلة الآداب البيروتية، أهم قصائده حتى تاريخه، وربما الأهم في مسيرته الشعرية، "خبز وحشيش وقمر". ... كانت خروجاً على المفاهيم المتوارثة والعادات والتقاليد السائدة، التي رأى فيها نزار تمسّكاً مبالغاً فيه من مجتمعه ومحيطه، الدمشقي خصوصاً والسوري عموماً، بمجموعة قيم وأفكار تتناقض مع روح العصر بحداثتها، وتضع قيوداً على طرق تفكير السوريين وتفاعلهم مع حاضرهم ونظرتهم إلى مستقبلهم. كانت القصيدة ثورةً حقيقية أثارت حفيظة تيار الإسلام السياسي المُمَثَّل في البرلمان وقتها بجماعة الإخوان المسلمين، التي كانت لها مشاركتها الفعالة في الحياة السياسية والبرلمانية، كباقي الأحزاب على الساحة السورية، ناهيك عن نشاطها الاجتماعي المؤثِّر، وحضورها القوي في أغلب طبقات المجتمع السوري، على اختلاف منابتها الاجتماعية والاقتصادية والفكرية.
تعيش أطياف عريضة من السوريين اليوم، من منابت دينية وفكرية واجتماعية مختلفة، حالة خَدَرٍ شبيهة بالتي تحدثت عنها قصيدة نزار قباني "خبز وحشيش وقمر"
اللافت في موقف نزار في قصيدته التي أقامت الدنيا ولم تقعدها أنها لم تنتقد أفكاراً بعينها، دينيةً كانت أو اجتماعية، بقدر ما انتقدت حالة "الاستسلام اللذيذ" من السوريين لطريقة عيش وتفكير معينة لا علاقة لها بالدين، واستمتاعهم بطقوسها، ومن هنا ربما جاء استخدامه مفردة "حشيش"، وإصراره أن تكون في عنوان قصيدته.
تعيش أطياف عريضة من السوريين اليوم، من منابت دينية وفكرية واجتماعية مختلفة، حالة خَدَرٍ شبيهة بالتي تحدثت عنها قصيدة نزار، لم تبدأ في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، مع فرار الوريث الساقط، وحلول هيئة تحرير الشام بنسختها المحدثة من الفكر السلفي الجهادي مكانه، بل لعلها بدأت فعلياً في 8 مارس/ آذار 1963 مع صعود حزب البعث إلى السلطة، ومصادرته كل أشكال الحياة السياسية والبرلمانية والفكرية السورية، باسم شعاراتٍ آمنت بها أطيافٌ عريضةٌ من السوريين، إلا أنها لم تقدّم لهم، في النهاية، إلا نموذج الحزب الواحد والقائد الأوحد، والفكر المسطّح الذي انتهى بهم إلى حكم العائلة لبلدٍ صار مزرعةً لها، وكما ترافقت حالة الأمس مع حضور العديد من السوريين المخلصين، الذين آمنوا فعلاً بكثير من الشعارات التي طرحها رفاق المرحلة، وتحوّلت، مع الوقت، طُعْمَاً اصطاد البلد كله في صنارة "القائد الخالد"، فإن الغالب من التيارات الشعبية التي تهلل اليوم لسلطة الأمر الواقع، وترفض أي انتقادٍ لها، تستند لحواضن شعبية تؤمن فعلاً بكل الشعارات الحقيقية التي تبناها السوريون في ثورتهم على النظام البائد، وتبارك حالة الانعتاق الكبير من سلطته الغاشمة التي لم تكتفِ باستباحة حرّياتهم، بل تعدت ذلك إلى مصادرة أسباب عيشهم، بمنظومات فساد أرادت السلطة والثروة معاً، يعود بعض أكبر رموزها اليوم إلى إعادة إنتاج أنفسهم بصور جديدة تتلاءم مع المشهد الجديد وكأن شيئاً لم يكن، وكما كيّفوا أنفسهم مع شعارات رفاق الأمس التي اقتادتهم إلى نظام حكم العائلة والمزرعة، ها هم يتماهون اليوم مع شعارات "مشايخ" اليوم، التي وإن اختلفت بمظهرها تتفق معها بمضمونها الفعلي وغاياتها الحقيقية، والأخطر من ذلك نتائجها.
كانت سورية الخمسينات أكثر وعياً وتسامحاً، وعندما استنكرت طبقتها الدينية قصيدة "خبز وحشيش وقمر" تم ذلك تحت قبة برلمان وطني منتخب
حالة التسليم المطلق من تيار عريض من السوريين بأن هناك من حرّرهم فعلاً، وإنكارهم دور المعادلات الدولية والإقليمية المعقدة التي ساهمت في سقوط نظام الوريث بعد أن فقد صلاحيته عند الجميع، هي التي تستحقّ الوقوف عندها، خصوصاً أنها تستدعي عندهم فوراً حالة تفويض مطلق لـ"محرّريهم" المفترضين بإدارة كل شؤون بلدهم، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكأنهم لم يثوروا بالأمس على نظامٍ حَكَمَهُمْ بتفويضٍ مماثل، اغتصبه باسم "ثورة" 8 آذار، و"بَعث" وأهداف سامية لم يروا منها إلا صديدها وعفنها وقروحها، اغتالت أمسهم وصادرت حاضرهم، وقضت على مستقبلهم، رغم وجود بعثيين عديدين أخلصوا فعلاً لتلك الأهداف، فنجحوا بالأخلاق، وفشلوا بالسياسة، إلى أن استأصلهم الأسد الأب في حركته "التصحيحية"، وباشر التأسيس لحكم المزرعة الذي انتهى بتوريث الساقط، وصولاً إلى ثورة السوريين عليه التي كَلَّفَتهم جميعاً ومن دون استثناء، 13 عاماً من الدماء والسجون والتشرّد واللجوء، لينتهي بهم المطاف عند شعار "من يحرّر يقرّر"، الذي كان لافتاً أنه لم يتم طرحه وتسويقه أنه من السلطة الجديدة، بل على أنه نداء شعبي وأهلي طرحه وتبنّاه بعض السوريين، وهُمُ اليوم في حالة "خضوعهم اللذيذ" له، غير مستعدّين لسماع أي رأي أو نقد لأي أمر يتعلق بالشأن العام ويفسد عليهم حالة استمتاعهم بلفافة الحشيش نفسها التي تحدّث عنها نزار منذ عقود، أو يوقظهم من نشوتهم المزيّفة معها.
ليست حالة الخَدَر التي يعيشها السوريون اليوم متعلقة بأصالة مقابل حداثة، أو تَدَيُّن مقابل علمانية، بل هي مزيج من مكارثية وشعبوية ورغائبية شديدة بالانتقام من عهدي الأسدين، لها بكل تأكيد مبرّراتها المحقّة، على أنها لا يجب أن تحيل الضحية إلى شاهد زور، يرفض بإصرار أن يرى مؤشّرات كثيرة خطيرة تشي بالاتجاه الذي يسير البلد باتجاهه، ناهيك أن يعي مدلولاتها ونتائجها التي شملت وستشمل الجميع، وتحولهم من شهود زور إلى ضحايا، فالجو العام المشبع بالفكر الذي أباح الاعتداء على حلقة الذاكرين (السُنَّة) في جامع مصعب بن عمير في حماة المحافظة أواخر مارس/ آذار الماضي، ووصفهم بالمبتدعين والقبوريين واتهامهم بالشرك، والسكوت عنه، وعدم محاسبة من قاموا به على رؤوس الأشهاد، هو الذي مهّد الطريق لحادث كنيسة مار إلياس المأساوي وضحاياه الأبرياء، وضحايا كل عمل إرهابي، لا أستثني منهم على الإطلاق عناصر الأمن العام وجهودهم النبيلة في حماية أهلهم السوريين بمنتهى الغيرية. ومهما اختلف التوصيف الجنائي للحادثين ومن وراءهما، لا يمكن فصل ذلك كله عن حالة "الخروج" الفكري والديني الخطيرة التي يجري التمكين لها اليوم، في ظل حالة الخدر نفسها التي يعيشها بقية السوريين، ويستمتعون بها، لا يريدون لأي انتقاد أن يعكّر عليهم صفوها الآسِر.
كانت سورية الخمسينات أكثر وعياً وتسامحاً، وعندما استنكرت طبقتها الدينية قصيدة "خبز وحشيش وقمر" تم ذلك تحت قبة برلمان وطني منتخب، قدّم فيه نائب الإخوان المسلمين المُفَوَّه الشيخ مصطفى الزرقا مطالعةً رصينة رغم حدّتها، طالبت بمنع القصيدة وتسريح نزار قباني من سلك الخارجية، رَدَّ عليها الوطني الكبير خالد العظم بصفته وزير الخارجية بمطالعة غاية في الذكاء والنبل والوطنية... مأساة سورية عام 2025 أنه لم يعد فيها نزار قباني ولا مصطفى زرقا ولا خالد عظم، حتى الخبز والحشيش والقمر، لم تعد ضمن إمكانات السوريين العاديين … كل ما لديهم اليوم: تحرير وتفجير وَخَدَرْ.

Related News


