ليسوا برابرة
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

هذه حقيقة بسيطة، ومذهلة، تقول إنّ الذين أحرقوا بيتي، في قريتي، في السويداء، وأحرقوا بيوت القرية كلّها، كما أحرقوا البيوت في اثنتين وثلاثين قرية، عدا الأحياء الغربية من المدينة، ليسوا برابرة، ولم يأتوا من دول أخرى، وليسوا صهاينة أيضاً، بل هم سوريون من جميع جهات الجغرافيا السورية المنكوبة.

سوريون من أعطوا الأوامر، ومن لم يمنعوا المجازر، وسوريون من قاتلهم، وسوريون من حملوا المعاول التي كانت في ما مضى تُستخدم لإصلاح الأراضي البور، كي يهدموا بها المنازل العامرة، وسوريون من حملوا القنابل اليدوية لإحراق البيوت، بدل أن تظلّ من مخصصات الدفاع عن الحدود.

وفي خمسة عشر يوماً، تمكّن السوريون من تهديم وطن صار عمره مئة عام، حتى إن جندياً صغيراً قاتلاً بات بوسعه أن يسأل: "إيش يعني سوري؟".

لم يكتمل المشهد بعد؛ فالجنود لا يزالون يحاصرون بيتي حتى ساعة كتابة هذه المقالة، يمنعوننا من أن نأخذ صوراً لمحنتنا، للحرائق التي أشعلوها في ذكرياتنا، والدخان الذي غطّى بكثافته السوداء ما كنا نبتهج به من طلاء الحيطان والنوافذ والأبواب.

يخيَّل للمرء أن الحوار محظور بين أبناء البلد، ومسموح فقط تجاه الأعداء

ولكن، ماذا سنفعل حين نعود، غير أن نبكي، أو نشتكي إلى الله وحده، إذ لم يعد أحد من البشر يريد أن يسمع شكوى الأبرياء الذين لم يفعلوا شيئاً، غير أنّ التاريخ والجغرافيا، والحروب، والهجرات القديمة، حشروهم هنا في هذه الزاوية الضيقة المسدودة من الوعر الصخري الذي تراكم منذ آلاف السنين، فارتاحوا إلى التراب الأحمر، وانتظار المطر من السماء.

ومثلما كانت صخور البراكين، وأشجار البلوط في جبالهم، أصبحوا هم كذلك. يعبدون الله نفسه الذي يعبده غيرهم، غير أن الطريق إليه ليست هي الطريق نفسها، ولا يغضب الله من تعدد الطرق إليه، ولا يرى فيها ذنوباً.

من الناس من رآها ذنوباً، جعلت الآخرين — من السوريين، لا من البرابرة، ولا من أي شعب آخر — يقرّرون غزوهم. وبفضل اللغة العربية التي تمنح بعض البشر المساحة الآمنة كي يفعلوا ما يريدون من أفعال، ويعيدوا تسمية الأشياء بالمسمّى المناسب، فقد سُمِّي الهجوم الأول الذي نُهب فيه بيتي: "فض الاشتباك"، بينما سُمِّي الهجوم الثاني، الذي اجتاح فيه عشرات آلاف السوريين قريتي، وأحرقوا مكتبتي: "الفزعة".

لماذا؟ فغزة تحترق وتموت منذ سنتين، ولم تفزع لها قبيلة عربية واحدة، وإذا كان قد قُتل بضعة أشخاص في المدينة من العشائر — وهو فعل أدانه الآلاف من أبناء المحافظة — فقد قتلت إسرائيل عشرات الآلاف، ولا تزال تقتل، من الفلسطينيين في غزة، من العشائر ومن غيرهم، ولم تفزع القبائل العربية.

هل كان بالوسع أن نجد طرقاً أخرى غير طريق المذبحة؟ نعم، بالتأكيد. ثمة من يحاور إسرائيل، ولا يريد أن يحاربها، وهذا يعني أن لديه حلّاً للحوار مع أبناء الوطن الواحد، بدلاً من أن يُجَرِّد السيف ضدهم (تجريد السيف حقيقة مادية ينفذها مقاتلو العشائر).

سبق لبشار الأسد أن اختار الطريق ذاته، حتى ليُخيَّل للمرء أن الحوار والتفاوض محظوران بين أبناء هذا البلد، ومسموحان فقط تجاه الأعداء، أو أن يكون الإخضاع لغة السلطة تجاه المواطن، والخضوع لغتها تجاه العدو.


* روائي من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية