
باتت مخاوف أهالي بلدة سبسطية شمال غرب نابلس، شمالي الضفة الغربية المحتلة، من قضم الاحتلال أراضيهم وتهويدها واقعاً ملموساً بعد قرار عسكري إسرائيلي يقضي بتحويل نحو 40% من أراضي البلدة إلى ما يسمى "منطقة أثرية" إسرائيلية، وسط تخوفات من إقامة مواقع استيطانية في البلدة، ما يفتح الباب أمام تغيير جذري في هوية المكان التاريخية والثقافية.
لم يعد عنان غزال (55 عاماً) قادراً على الوصول إلى أرضه وزراعتها في سبسطية بعد وضع جيش الاحتلال قراراً عسكرياً على منطقة الأعمدة الأثرية في البلدة، يقضي بتحويل 40% من مساحة سبسطية بحسب بلديتها إلى موقع تاريخي إسرائيلي. ويمتلك عنان 30 دونماً من أراضٍ مزروعة بالزيتون الروماني القديم والمعمر، بالإضافة لأشجار الخوخ والمشمش التي زرعها جده ووالده، وورثها عنهما، وتعد أرضه كما يقول لـ"العربي الجديد" مصدر رزق رئيسيا له ولعائلته في مواسم الزيتون واللوزيات.
وما يزيد من خشية عنان أنه بالكاد يستطيع الوصول بشكل مريح إلى أراضيه، وخاصة في الأشهر التي تلت شن الاحتلال حرب الإبادة على غزة، في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث زادت اقتحامات المستوطنين وجيش الاحتلال للمنطقة الأثرية القريبة من الأراضي الزراعية، وفي كل مرة يمنع جيش الاحتلال المزارعين من الوصول لأرضهم. ويقول عنان: "حين لا تصل إلى الأرض، لن تحرثها، ولن تقلم شجرها ولن تخدمها، ستكبر الأعشاب ولن تعطي كما لو خدمتها. ولكن الخطر الأكبر أن تتعرض هذه الأراضي بعد منعنا من الوصول إليها لحريق، صحيح أنني في كل مرة أقاتل للوصول لأرضي ولم أتركها دون حراثة وتقليم، ولكن آخرين في البلدة لم يستطيعوا الوصول، وحرقها المستوطنون بعد أن منع الاحتلال أصحابها من حراثتها، وكبرت الأعشاب فيها". ويشير إلى أنه يمتلك قطعة أرض واحدة قريبة من المنطقة الأثرية، لكن باقي الأرض لا تحتوي على آثار وتحويلها إلى منطقة أثرية سيحرمه، كما الباقي، من الاستفادة منها للزراعة.
ورغم أن القرار العسكري صدر، بحسب ما كُتب عليه، في 4 مايو/أيار الماضي، إلا أن عنان يؤكد أنه هو وباقي أهالي سبسطية لم يُبلغوا إطلاقاً بالقرار من قبل، وفوجئوا به الثلاثاء الماضي بعد وضعه من قبل قوات الاحتلال على الأعمدة الأثرية في شارع الأعمدة. ويشدد عنان على أنه مع المزارعين الآخرين سيطرقون كل باب محلي أو دولي للحفاظ على أراضيهم أمام هذا القرار، وحتى محاكم الاحتلال والسبل القانونية.
متابعة قانونية معقدة
وتبدو المتابعة القانونية على مستوى محاكم الاحتلال أكثر تعقيداً في هذه الحالة عن التعقيدات المعهودة، فكما يؤكد رئيس بلدية سبسطية محمد عازم لـ"العربي الجديد" فإن الإبلاغ بالقرار تأخر ثلاثة أشهر، وتزامن مع قرارين عسكريين يتعلقان بأراضٍ في دير شرف يعود لعام 2018، وآخر في منطقة المسعودية القريبة من برقة يعود لعام 2021. وبذلك، كما يشرح عازم، فإن لهذا التأخير آثارا خطيرة على مرور المدد القانونية لتقديم الاعتراضات والتوجه للمحاكم، معتبراً أن الاحتلال تعمد ذلك.
ولا تقتصر التعقيدات على ذلك، فالأراضي التي يمتلكها المواطنون في هذه المنطقة مصنفة بالمناطق (ج) المنصوص عليها في اتفاق أوسلو، ورغم امتلاكهم "طابو" أردنيا، أي أنها سُجلت كملكيات خاصة لهم في زمن الإدارة الأردنية للضفة الغربية قبل احتلالها عام 1967، فإن الكشوف الخاصة بذلك موجودة في معسكر حوارة التابع لجيش الاحتلال، ولإخراج أية أوراق يتوجب على المواطن التوجه إلى الإدارة المدنية في هذا المعسكر، والتي باتت أكثر مماطلة في تسليم الأوراق للفلسطينيين، كما يقول عازم. ولم تُبلغ البلدية بشكل نهائي بالقرار عند صدوره، قبل نحو ثلاثة اشهر، وتبلغت يوم الثلاثاء بعد وضع القرار على الأعمدة الأثرية، وتسليم الأوراق لراعي أغنام تصادف وجوده بالمكان مع وجود جيش الاحتلال، والطلب منه تسليمها للبلدية.
ويقضي القرار بقضم ما يقارب 1800 دونم من أراضي البلدة، أي نحو 40% من مساحة أراضي البلدة، ما يعني أنها ستصبح أراضي تابعة لدائرة الآثار الإسرائيلية، تحت إشراف ضباط الإدارة المدنية وضباط الآثار في هذه الإدارة التابعة لجيش الاحتلال. ويقول عازم: "هذا يعني أن الفلسطينيين يمنع عليهم أن يقوموا بأي إجراء داخل هذه الأراضي، ونخشى خلال الفترات القادمة أن يتم أيضا منع المواطنين حتى من حراثة أراضيهم أو زراعتها بحجة انها منطقة أثرية".
وسبق هذا القرار وضع الاحتلال اليد على 1300 متر مربع، العام الماضي، لإقامة منشأة عسكرية إسرائيلية في قلب المنطقة الأثرية، وقرار آخر قبيل الحرب على غزة برصد 33 مليون شيكل (نحو 9.5 ملايين دولار) لتنفيذ أعمال تطوير للمنطقة الأثرية وتنقيبات لصالح إقامة "حديقة السامرة"، التي يدفع مجلس المستوطنات لإقامتها في سبسطية بدعم من وزارة التراث الإسرائيلية.
تخوفات من إقامة مواقع استيطانية في سبسطية
وبحسب عازم، فإن الأهالي لا يعلمون كيف سيتم استغلال هذه الأراضي من قبل الاحتلال والمستوطنين، فكثير من المواقع المصنفة كأراضي دولة استغلها المستوطنون في نهاية المطاف لإقامة بؤر استيطانية، كما هو الحال في بؤرة قريبة من سبسطية على أراض مصنفة خزينة دولة، منذ حقبة إدارة المملكة الأردنية للضفة، حيث أصبحت هذه البؤرة الرعوية مصدر عدوان على مساحات لا تقل عن سبعة آلاف دونم من أراضي شمال غرب نابلس من برقة وسبسطية ودير شرف والناقورة وحتى رامين قضاء طولكرم.
ويشمل القرار ما لا يقل عن 1200 دونم أي ثلثي الأراضي المحولة لمنطقة أثرية؛ لا تحوي آثاراً، وغير مصنفة كمنطقة أثرية وفقاً للبلدية والمؤسسات الفلسطينية، كما يقول عازم. ويعد هذا المخطط قديماً نسبياً ويعود لثماني سنوات على الأقل، لإقامة حديقة توراتية تتبع دوائر الآثار الإسرائيلية، وتم الدفع لتنفيذه بضغط من مجلس المستوطنات ورئيسه المتطرف يوسي داغان. وتتوقع بلدية سبسطية، بحسب تحليل المعلومات التي وصلت إليها، إقامة شارع استيطاني جديد يصل المنطقة الأثرية بالمستوطنات المحيطة لتسهيل وصول المستوطنين إليها بدلاً من الدخول عبر شارع للفلسطينيين ويمر من جانب بيوتهم.
ويرجع تاريخ سبسطية إلى العصر البرونزي عندما سكنها أقوام بدائيون يعتقد أنهم من قبائل الكنعانيين في أوائل القرن التاسع ق.م، وفيها العديد من الأماكن الأثرية التي لا تزال قائمة منها؛ البوابة الغربية، وشارع الأعمدة، والساحة المركزية، والمدرج الروماني، والبرج اليوناني، ومعبد أغسطس، وقصر الملك عمري، وكنيسة يوحنا المعمدان، والاستاد اليوناني ومعبد كوري.
