نحو تحالف وطني جامع لبناء سورية الجديدة
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

منذ سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، تمرّ سورية في مرحلة انتقالية حاسمة، تمثّل منعطفاً تاريخياً في مسارها السياسي، وتُهيئ فرصةً لإعادة تأسيس الدولة على أسسٍ جديدة. تهدف هذه المرحلة إلى إعادة تشكيل البنية السياسية للدولة السورية وتأسيس مشروع وطني شامل يرتكز على مبادئ المشاركة الفاعلة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة في المواطنة. إنها ليست مجرّد فترة إدارية مؤقّتة أو استبدال سلطةٍ بأخرى، بل هي لحظة تأسيس حقيقية لبناء دولة حديثة، تجسّد تطلّعات جميع السوريين، وتعزّز الشراكة الوطنية، وتنهي عقوداً من التهميش والاستبداد. لم تعد هذه المرحلة مجرّد سدٍّ للفراغ السياسي، بل تحوّلت فرصةً لإعادة تعريف الدولة السورية، وبناء مشروع وطني جامع يعكس إرادة السوريين بكلّ مكوّناتهم، ويرسي دعائم دولة حديثة تقوم على المشاركة، والعدالة، والمواطنة المتساوية، واحترام التنوع.
في هذا السياق، لم يعد جائزاً استمرار العقلية القديمة التي ترى الدولة حكراً على فئة واحدة، أو تستند إلى الهيمنة والأحادية. فالمرحلة الانتقالية لا ينبغي أن تكون إعادة إنتاج للسلطة، بل مدخلاً لبناء دولة تشاركية يُعترف فيها بجميع المكوّنات القومية والدينية والسياسية، ويتمتع فيها المواطنون بحقوق متساوية في التمثيل واتخاذ القرار، على أساس الانتماء الوطني، لا الولاءات الحزبية أو الطائفية الضيّقة. تشكّل هذه المرحلة عملية إعادة تأسيسٍ جذريةٍ للدولة، وتعني إعادة بناء العلاقة بين المواطن ومؤسّسات الدولة على أسس جديدة تقوم على الثقة والمساءلة، ويستلزم هذا التحوّل الاعتراف بالتنوع السوري القومي والديني والسياسي باعتباره عنصر إثراء للوطن، لا تهديداً لوحدته. أمّا الاستمرار في العقلية الأحادية، واعتبار الدولة ملكاً حصرياً لحزب أو فئة أو مذهب، فهو ما أنتج دولةً فاشلة وسلطوية.

ينبغي بناء تحالف وطني عريض، يكون بمثابة أداة فعّالة لإدارة المرحلة الانتقالية، ويعبّر عن الإرادة الجمعية للسوريين

الدولة الشرعية الحقيقية هي التي يشعر فيها كلّ مواطن بأنها تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتكفل حقوقهم، وتحمي حرّياتهم. لا تنبع شرعية الدولة من القسر والإكراه، بل من ثقة مواطنيها فيها، حين يشعرون بأنها تحمي كرامتهم وتصون حقوقهم وتكفل لهم المشاركة في القرار العام. فالولاء الحقيقي لا يُفرَض، بل يُولد طوعياً عندما يرى المواطن أن هذه الدولة تُدار بعدالة، وتمنح الجميع فرصاً متساوية.
وفي سياق إدارة المرحلة الانتقالية، شهدت الفترة الماضية اتخاذ بعض الإجراءات التمهيدية، مثل إصدار الإعلان الدستوري المؤقّت، وتشكيل حكومة انتقالية، والدعوة إلى إنشاء "مجلس شعب مؤقّت"، إلا أنها لا تكفي لضمان نجاح المرحلة. إذ إن نجاح الانتقال مرهون ببناء مؤسّسات انتقالية على قاعدة التمثيل الوطني الحقيقي، بما يعكس الإرادة الجمعية للشعب السوري، ويمنح تلك المؤسّسات الشرعية والمضمون. ما تحتاجه سورية اليوم عقد اجتماعي جديد يُعيد للسوريين شعورهم بأنهم متساوون في الحقوق والواجبات، وأنهم شركاء فاعلون في بناء الدولة الجديدة، لا رعايا خاضعون لسلطة قهرية. ولا بدّ من التنبيه إلى أن تجاهل مطالب بعض المناطق أو المكوّنات قد يقوّض الاستقرار الوطني، فالأحداث المؤلمة في السويداء أخيراً، وما شهدته مناطق الساحل من انتهاكات فظيعة في مارس/ آذار المنصرم، واستمرار تغييب حلٍّ عادلٍ للقضية الكردية، تُشكّل كلّها جرس إنذار خطيراً. تجاهل التنوع السوري، والخصوصيات القومية والدينية، أو التعامل مع بعض المكوّنات بمنطق أمني أو فوقي، سيقود إلى مزيد من التوتّرات والانقسامات التي تهدّد وحدة البلاد وسلمها الأهلي. وفي هذا السياق، يستدعي ما جرى في محافظة السويداء وتداعياتها الإقليمية والدولية وقفة حازمة تجاه كلّ ما يهدّد التماسك المجتمعي ومعالجة أسبابه. وفي مقدّمة هذه التهديدات تفشّي ثقافة الكراهية والتخوين، وهي إرث ثقيل من النظام السابق لا يزال يُلقي بظلاله على الوعي الجمعي.
آن الأوان لصياغة مشروع وطني جديد ينهي ثقافة الإقصاء والتخوين، ويؤسّس لدولة تعترف بتنوّعها، وتكفل مشاركتها المتساوية في صياغة القرار السياسي والإداري. والمدخل إلى ذلك بناء تحالف وطني عريض، يكون بمثابة أداة فعّالة لإدارة المرحلة الانتقالية، ويعبّر عن الإرادة الجمعية للسوريين. على أن ينبثق هذا التحالف من مؤتمر وطني شامل، يضمّ ممثلين حقيقيين عن القوى السياسية الوطنية، والمكوّنات القومية والدينية، ومنظّمات المجتمع المدني والنقابات المهنية، والنساء والشباب، ومن شاركوا في الثورة السورية ودعمها.
يعتبر تشكيل هذا التحالف ضرورةً وطنيةً لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وسدّ الفجوة بين السلطة والمواطن. ومن خلاله يمكن العمل لبناء مؤسّسات شرعية تعبّر عن جميع السوريين، وتؤسّس مساراً انتقالياً فعالاً. وتكتسب الدعوة في هذه المرحلة الحسّاسة لعقد مؤتمر وطني شامل أهميةً استثنائية، وأن تصدر من رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، بوصفها خطوة تأسيسية لإعادة رسم المشهد الوطني على أسس جديدة، وبناء التحالف الوطني العريض الحامل السياسي للمرحلة الانتقالية، والسند الوطني لمؤسّسات الدولة الجديدة. يحتاج هذا التحالف إلى خصائص واضحة، في مقدّمتها الواقعية السياسية في مقاربة التحدّيات، والاستقلالية في القرار الوطني، والتمثيل التعدّدي الحقيقي بعيداً من الاحتكار الفئوي. كذلك ينبغي أن يمتلك آليات رقابية نزيهة، لضمان الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد والانحراف. أمّا الحكومة المنبثقة منها، فيجب أن تكون حكومة وحدة وطنية موسّعة، تضمّ كفاءات مهنية من مختلف المكوّنات، وتُمنح صلاحيات واضحة لمعالجة الملفّات الكُبرى: من إعادة هيكلة المؤسّسات، إلى إصلاح القضاء والأجهزة الأمنية وضمان الحرّيات العامّة والفردية.

يبدأ الانتقال الحقيقي نحو الديمقراطية بالاعتراف بالشراكة الوطنية، وتحقيقها عبر مؤتمر وطني جامع

ولا يمكن إغفال المسار الدستوري عبر عمل جمعية تأسيسية، تعبّر عن مختلف التنوّع السوري، لأنه الحجر الأساس في الانتقال، فالدستور الجديد يجب أن يعكس الهُويَّة الحقيقية لسورية دولةً متعدّدة القوميات والأديان والانتماءات، ويكرّس مبدأ فصل السلطات والمساءلة، ويمنع عودة الاستبداد، ويوزّع السلطة بين المركز والأطراف بطريقة تضمن العدالة والمشاركة. سورية اليوم بحاجة ماسّة إلى رؤية وطنية شاملة تنبذ العنف بكلّ أشكاله، وتقوم على الحوار والتفاهم. رؤية تهدف إلى بناء دولة ديمقراطية لا مركزية، تضمن المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المكوّنات، وتحافظ على كرامة الإنسان وحرية الرأي والتعبير. لقد انتهى عهد الدولة أحادية الرأي والصبغة القومية الواحدة، وكذلك زمن الإقصاء والتهميش. وكما يقول المثل الكردي: "لا فناء لشجرة إن لم تكن من جذورها"، فإن التنوّع القومي والديني في سورية هو جذرها الحقيقي، وبه تزدهر البلاد وتترسّخ دعائم استقرارها.
في النهاية، تبقى دولة المواطنة هي التحدّي الأكبر والغاية الأسمى للمرحلة الانتقالية. فلا يمكن بناء سورية الجديدة على أساس الأحادية، بل على قاعدة القانون، وتكافؤ الفرص، والانتماء الجامع. دولة "كلّ السوريين"، لا دولة فئة أو حزب، دولة تُبنى بإرادة الأحرار، لا على أنقاض الطغيان أو بقايا المحاصصة الضيّقة. يبدأ الانتقال الحقيقي نحو الديمقراطية بالاعتراف بالشراكة الوطنية، وتحقيقها بآليات مناسبة، عبر مؤتمر وطني جامع، وتحالف وطني واسع، وحكومة وحدة فاعلة، ويُتوَّج بدستور عادل، ودولة تصون الكرامة والحرّيات. وبهذه الأسس، تتحوّل المرحلة الانتقالية لحظة ولادة جديدة لسورية، يستعيد فيها السوريون ثقتهم بأنهم جميعاً شركاء في وطن واحد، متعدّد وحرّ وعادل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية