
من بين التحولات الفنية التي عرفها العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، لا يبرز تعاون فني أكثر إثارةً للسجالات واستحقاقاً للتحليل من الشراكة الإبداعية بين زياد الرحباني الذي غيبه الموت اليوم عن 69 عاماً، ووالدته فيروز التي كانت تمثل الأيقونة اللبنانية المثالية وصوت الحنين والسمو الروحي.
جاء زياد الرحباني من جيل السبعينيات الغاضب، حاملاً في يده اليمنى إرث الرحابنة، وفي اليسرى مطرقة التمرد الموسيقي والسياسي. وحين بدأ التعاون مع والدته في عقد السبعينيات، لم يكن الأمر انتقالاً سلساً داخل العائلة الفنية، بل بدا لكثيرين وكأنه كسر للتقاليد. فيروز، التي كانت تغني تحت إشراف الأخوين رحباني لعقود، غنّت الآن من ألحان شاب في العشرين من عمره، يكتب ألحاناً بلغة موسيقية غير معتادة، تحمل روح الجاز، والسوينغ، والمقامات الشرقية، في توليفة جديدة لم يألفها الجمهور بعد. بدأ الأمر بأغنية "سألوني الناس"، التي لحنها زياد الرحباني أثناء مرض والده عاصي، وتحوّلت إلى إعلان انطلاق غير مباشر لمرحلة جديدة في مسيرة فيروز. مرحلة فيها قدر أكبر من الانكسار والحميمية، وابتعاد عن الخطاب الوطني المعلن.
تميّزت ألحان زياد الرحباني لفيروز بشيء من الخصوصية النغمية والعاطفية. لم تكن الألحان مجرد وسيلة لإبراز جمال الصوت، بل كانت في ذاتها بنية درامية تتحدث عن هشاشة الإنسان، عن ضياعه، عن قلقه الوجودي. كانت تعبيرات حسية عن مشاعر كامنة، يقدِّمها صوت أيقوني أصبح أكثر إنسانية وهشاشة. لا يمكن الحديث عن ألحانه لفيروز من دون التوقف عند الجانب التجريبي فيها. تعامل زياد الرحباني مع الجملة الموسيقية باعتبارها مساحة مفتوحة للتشظي والتداخل، وليس بوصفها هيكلاً تقليدياً. في مقدمة مسرحية "ميس الريم"، ظهرت بوادر هذا التجريب، لكنه تبلور أكثر في أعمال لاحقة مثل "وحدن" وفيروز في بيت الدين، إذ بدا التوزيع الموسيقي أجرأ، والحوار بين الآلات أحدّ، وكأننا أمام أوركسترا تعبّر عن تناقضات المجتمع اللبناني كله.
لم يكن ممكناً لفنان مثل زياد الرحباني أن يكتفي في تعاونه مع فيروز بأغانٍ رومانسية فقط، ولكنه كذلك لم يكن ليقبل باستنساخ الأغنية الوطنية المباشرة. نقلت أغنيات زياد صوت فيروز إلى مناطق اشتباك سياسي ناعم. تحمل أغنية "بيتي صغير بكرا بيكبر" بُعداً استشرافياً لوطن مكسور. لم تكن هذه الأغاني شعارات سياسية، لكنها مواقف مشحونة بالمعنى، تقول الكثير من دون أن ترفع الصوت. يطاول ذلك أيضاً الأغاني ذات الطابع العاطفي التي تحمل في خلفيتها تأملاً اجتماعياً. أغنية "بكتب اسمك يا حبيبي" ليست مجرد نشيد حب، بل قصيدة عن الحب في ظل الخوف والمراقبة، في مجتمع ما بعد الحرب.
يُحسب لزياد الرحباني أنه لم يسقط في استنساخ المدرسة الرحبانية الأولى، بل خلق مدرسته الخاصة وهو يعمل مع رمز تلك المدرسة. استطاع أن يستخلص من صوت فيروز أبعاداً جديدة، لم تبرز في أعمال الأخوين رحباني: صوت الحزن اليومي، صوت المرأة العادية، صوت الخسارة. كما أن هذا التعاون أخرج فيروز من جمود الأيقونة، وأعادها إلى الزمن، إلى التفاعل مع الواقع اللبناني والعربي الجديد، من خلال موسيقى تسير على الحافة، فيها خشونة المدينة، وغموض العلاقات، ومرارة السخرية. كانت ألحانه لوالدته تجربة قائمة بذاتها، فيها من الجرأة ما يكفي لتقسيم جمهورها، وفيها من الصدق ما يجعلها خالدة. كان زياد الرحباني يكتب ويلحن من ألم شخصي، ومن رؤية جمالية وفكرية، ونجح في أن يجعل فيروز تُغني من مكان أعمق، وأكثر التباساً وتعقيداً. وبهذا المعنى، فإن التعاون بينهما هو نموذج لفن لا يخاف من الزمن، ولا من التغيير، ولا من خيبات الجمهور. فن صادق، يطرح الأسئلة بدل أن يكرّس الأجوبة، ويمنح الصوت البشري كل هشاشته، وكل عظمته.
من السمات اللافتة في ألحان زياد الرحباني لفيروز هي علاقته غير التقليدية بالزمن الموسيقي. لم يكن مشغولاً بضبط الإيقاع وفق نماذج الطرب الكلاسيكي، بل ترك للزمن مرونة تسمح بتفاوت الإيقاع، وبالانتقال من لحظة نغمية إلى أخرى كما لو كان يكتب نصاً داخلياً لا يحتاج إلى نهاية مغلقة. كذلك، لا يسعى زياد الرحباني إلى إبراز الأداء الصوتي على أنه غاية مستقلة، بل يعامله بوصفه أداة تعبير صادقة، تتساوى في أهميتها مع الآلات والتوزيع. في أعماله، لا يتعامل مع الآلات بوصفها خلفية صوتية، بل باعتبارها كائنات حية تدخل في حوار مع النص والصوت. هو لا يسعى إلى تكثيف الجمال أو لإنتاج حالة طربية، بل يعيد صياغة البيئة السمعية بطريقة تتيح للمستمع أن يشعر بتوتر النص، أو سخرية الموقف، أو هشاشة العاطفة. وقد يكون التوزيع عنده في لحظات معيّنة أقرب إلى بيان سياسي أو موقف اجتماعي، إذ يصبح الصمت الموزون، أو الاحتكاك بين الآلات، أو كسر الإيقاع، أدوات دلالية لا تقل أهمية عن الكلمة. كما أن التوزيع في أعماله لا يهدف إلى إرضاء الأذن، بل إلى إثارة الوعي الصوتي لدى المتلقي. إنه توزيع يعلّم المستمع أن يصغي لا أن ينفعل فقط، وأن يلاحق التفاصيل، لا أن يندمج في موجة واحدة. وربما كانت هذه التقنية من أبرز ما ميّز أعماله مع صوت فيروز، إذ حرّكها من وسطها الأيقوني إلى تخوم جديدة، فيها الصوت جزء من منظومة كاملة، وليس مطلقاً منفرداً.
من خلال صوت فيروز، أعاد زياد الرحباني صياغة صورة المرأة في الأغنية العربية. لم تعد المرأة بطلة أسطورية، ولا حبيبة مثالية، بل إنسانة تعاني وتشك وتفتقد، وتشكو الجرح والخذلان، لكن الجملة الموسيقية لا تضخم الألم، بل تمنحه شكله الإنساني البسيط. هذه النظرة، التي تختلف عن تمجيد المرأة الحالم عند الأخوين رحباني، منحت صوت فيروز صدقاً واقعياً يتجاوز المثاليات. كانت ألحان زياد الرحباني لفيروز تأملات متوترة، غالباً ما تنتهي بلا حسم. لم يكن الاغتراب فيها يمثل موقفاً سياسياً فقط، بل كان فلسفة حياة، تجعل من الموسيقى ملاذاً هشّاً في مواجهة التفاهة والخراب.
