
في السادس من يناير/ كانون الثاني 2021، كان "ذو القرنين"، جايكوب تشانسلي المعروف باسم (شامان كيو آنان)، الأشهر عالمياً عندما اقتحم الكونغرس بصدر عار وطلاء الوجه بالألوان الأحمر والأزرق والأبيض وقبعة الفايكينغ ذات القرنين من "أجل الدفاع" عن الرئيس دونالد ترامب في محاولة لوقف اعتماد فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية، التي أُجريت في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني 2020. وفي اليوم الأول لولايته الثانية، في 20 يناير الماضي، قرر ترامب الوفاء بوعده بالعفو عن تشانسلي ضمن مجموعة من أنصاره الآخرين الذين آمنوا بنظريته، التي لم يستطع إثباتها، عن تزوير انتخابات 2020. غير أنه في 24 يوليو الحالي يبدو أن دعم ذي القرنين لترامب انتهى، إذ شنّ هجوماً لفظياً لاذعاً عليه، والسبب هو رجل الأعمال جيفري إبستين الذي توفي في عام 2019، لكن اسمه حاضر كما لم يكن من قبل في واشنطن.
وللمرة الأولى وجد ترامب نفسه وقد ارتدت عليه نظرية المؤامرة التي لطالما امتلك مفتاح الترويج لها والاستفادة منها، فقد روّج على مدار سنوات خلال ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، لنظرية مفادها بأن أوباما ولد في كينيا ولم يولد في الولايات المتحدة، مما يعني أنه غير مؤهل لتولي الرئاسة. وانتشرت هذه النظرية انتشاراً واسعاً في جميع أنحاء الولايات المتحدة، مما دفع البيت الأبيض يومها إلى الرد رسمياً ونشر صورة ميلاد أوباما، غير أن الأوراق الرسمية المعتمدة من الرئاسة الأميركية لم تكن قادرة على إسكات ترامب، الذي واصل الجدال حول ميلاد أول رئيس أسود في تاريخ البلاد.
وجد الشعبويون وأصحاب نظريات المؤامرة في شخصية ترامب بطلهم الشعبي
وعلى مدى السنوات الماضية، وجد الشعبويون وأصحاب نظريات المؤامرة في شخصية ترامب بطلهم الشعبي الذي يواجه الدولة العميقة: رجل أعمال شهير ونجم تلفزيوني له نفوذ وسلطة، يتبنى آراءهم ونظرياتهم ويصوغها وينشرها فتنشر كما لم تنشر قبل ويصير لها أتباع ومطيعون. قررت هذه المجموعات التي قدرتها الإحصاءات والتقارير بأنها تمثل نحو 10% من الناخبين أنهم أخيراً وجدوا صوتهم داخل الحياة السياسية بعد أن جرى تجاهلهم على مدار عشرات ومئات السنين.
وبالفعل أدخل ترامب ناخبين لأول مرة في الحياة السياسية الأميركية، وصارت هناك قواعد داخل الحزب الجمهوري ترى فيه الممثل الرئيسي لها، يتبعونه ويؤمنون به ويثقون باختياراته. كانت بعض هذه الاختيارات للممثلين في انتخابات مجلسي النواب والشيوخ تمثل وبالاً للحزب الجمهوري نفسه، إذ بات نجاحها مضموناً في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، لكنها لم تنجح في الصمود والحصول على أصوات المستقلين، ما أدى إلى خسارة مقاعد كانت مضمونة سواء في الانتخابات النصفية 2022 أو حتى الانتخابات الماضية 2024 رغم الدفعة التي أعطاها ترشح ترامب للحزب في جميع الولايات. واليوم باتت العلاقة بين ترامب وقاعدته مهددة وتعاني شرخاً عميقاً على خلفية قضية جيفري إبستين.
قضية جيفري إبستين
بعد مرور نحو ست سنوات على وفاة جيفري إبستين في زنزانته، هيمنت قضيته على واشنطن ومؤتمرات ترامب والبيت الأبيض وجلسات مجلسي النواب والشيوخ بالكونغرس ووزارة العدل ومكتب التحقيقات، بطريقة لم تعهدها واشنطن منذ فضيحة ممارسة الرئيس الأسبق بيل كلينتون الجنس مع الموظفة مونيكا لوينسكي، في الوقت الذي يجاهد فيه ترامب وإدارته لقتل هذه القصة التي يرتبط اسمه بها، إلا أنها تواصل الانتشار مثل النار في الهشيم. تسببت القضية في إغلاق مجلس النواب مبكراً، في محاولة من الجمهوريين، المسيطرين على المجلس، لقتل القصة مما أدى إلى توقف العمل التشريعي في واشنطن، وراجع نحو ألف موظف في وزارة العدل القضية بشكل مكثف. ورغم استماتة الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ في الدفاع عن ترامب، إلا أن قواعد الرئيس لها رأي آخر في ظل حالة القتال التي تبذلها إدارته لمنع نشر هذه الوثائق، وبدأت هذه القواعد لأول مرة في الانفصال عن الشخص الذي مثلها لأكثر من عشرة أعوام كاملة منذ ظهوره في 2015 وإعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2016.
ألقي القبض على جيفري إبستين لأول مرة عام 2006، وأدين بتهم رسمية بالاتجار بالجنس عام 2008، وذلك بعد صفقة إقرار ذنب سرية مع المدعين الفيدراليين بقيادة أليكس أكوستا، الذي أصبح وزيراً للعمل في حكومة ترامب في ولايته الأولى (2017 ـ 2021). حمته هذه الصفقة من الملاحقة القضائية في تهم فيدرالية أكثر خطورة لها علاقة بالتحرش الجنسي بالأطفال، وأطلق سراحه على غير العادة بعد 13 شهراً فقط. في 2019 ألقي القبض على جيفري إبستين مرة أخرى للتورط في الاتجار الجنسي بالأطفال القاصرات.
بدأ أنصار ترامب في إطلاق حملة "ماغا ضد ترامب"
علق ترامب آنذاك بأنه كان يعرفه "مثلما كان يعرفه الجميع في بالم بيتش"، مضيفاً "لقد كان شخصية بارزة في بالم بيتش، واختلفت معه منذ زمن طويل. لا أعتقد أنني تحدثت إليه منذ 15 عاماً. لم أكن معجباً به"، وفي تصريحات سابقة لمجلة نيويورك عام 2002، قال ترامب: "أعرف جيفري منذ 15 عاماً، إنه شخص رائع للغاية. يقال إنه يحب النساء الجميلات مثلما أحبهن، وكثيرات منهن أصغر سناً. لا شك أن جيفري يستمتع بحياته الاجتماعية"، لكنه لاحقاً ذكر أن صداقتهما انتهت قبل اعتراف جيفري إبستين بذنبه في استغلال القاصرات عام 2008. وتشير التقارير إلى أنه علاقتهما امتدت من بداية التسعينيات حتى 2004. شارك ترامب في نظرية المؤامرة المتعلقة بوفاة جيفري إبستين مبكراً، إذ إنه وبينما كان رئيساً، أعاد عقب وفاة إبستين في 2019، نشر تغريدة على منصة إكس (تويتر سابقاً) تشير إلى أن وفاة الملياردير المدان مرتبطة بالرئيس الأسبق بيل كلينتون. وطالب ترامب في تغريدة أخرى بإجراء تحقيق شامل في وفاة جيفري إبستين كما طرح تساؤلات حول العلاقة بين كلينتون ورجل الأعمال المدان. وقال ترامب "كان لديه جزيرة وهي مكان ليس جيداً ولم أذهب هنالك على الإطلاق، لذا عليك أن تسأل: هل ذهب كلينتون إلى الجزيرة؟".
تحولات ترامب وفريقه
واصل ترامب أثناء ولايته الرئاسية الأولى التشكيك في وفاة إبستين، وذكر في مقابلة أجراها عام 2020 على شبكة إتش بي أنه "إما قتل أو انتحر في السجن". بدأت النظرية تكبر وتنشر بين أنصار ترامب خلال فترة الرئيس السابق جو بايدن ، ومع استنتاج الطب الشرعي إلى انتحار جيفري إبستين تصاعدت هذه النظرية وسط ربطها بتورط ديمقراطيين بارزين فيها. وعد ترامب خلال حملته الانتخابية 2024 بنشر هذه الوثائق ضمن مجموعة من الوثائق الأخرى، مثل وثائق مارتن لوثر كينغ والرئيس الأسبق جون كيندي. روّج نائب الرئيس الحالي جي دي فانس ونجل الرئيس دونالد ترامب جونيور خلال الحملة، لنظرية المؤامرة ومفادها بأن "لدى جيفري إبستين قائمة بالمليونيرات والسياسيين الفاسدين الذين استضافهم في جزيرته، التي أُجبرت فيها فتيات قاصرات على ممارسة الجنس مع هؤلاء الرجاء الأغنياء والمسؤولين البارزين، وأنه مات مقتولاً في زنزانته في 2019 لأن الفئة النافذة أرادت قتله قبل أن يتمكن من المثول أمام المحكمة وتوريطهم". وروّجت وزيرة العدل بام بوندي، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) كاش باتيل، قبل توليهما منصبيهما الحاليين، أن وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي يخفيان أسماء عملاء جزيرة إبستين، إضافة إلى معلومات حول مقتله، وتعهدت وزيرة العدل قبل تولي منصبها بالإفراج عن "حمولة ضخمة" من هذه الوثائق.
بدأ إحباط أنصار ترامب سريعاً عقب بدء ولايته الثانية، لكنهم كانوا مستعدين لتحميل أي شخص آخر المسؤولية بخلاف الرئيس المفضل، ففي فبراير/ شباط الماضي، نشرت وزارة العدل المرحلة الأولى من وثائق قضية إبستين، غير أنها خيبت آمال مؤيدي ترامب من حركة "ماغا" لأنها لم تضف جديداً. ازدادت حدة غضب أنصار ترامب في الاسبوع الأول من الشهر الحالي عندما أعلنت وزيرة العدل عن إغلاق القضية، مع نشر مقطع فيديو مدته عشر ساعات يوثق ليلة موت إبستين، زاعمة أنه يثبت انتحاره، إلا أن الفيديو لم يتضمن الدقيقة الأخيرة التي حدثت فيها الوفاة، ما أثار موجة غضب بين المتابعين الذين تساءلوا عن قائمة "العملاء"، ومن المتورطين فيها، فطالبوا رئيسهم بإقالتها.
أشار تاكر كارلسون وآخرون إلى أن جيفري إبستين كان جاسوساً لإسرائيل
لكن موقف الرئيس واستهانة البيت الأبيض بالقضية دفعا مؤثرين ومشاهير مثل تاكر كارلسون لتوجيه انتقادات حادة والإشارة بوضوح إلى أن جيفري إبستين كان جاسوساً لإسرائيل، وأن الجميع يخاف من قول ذلك. وفي منشور غاضب كتب ترامب على صفحته في 12 يوليو الحالي رسالة حادة، وصف فيها من يطالبون بنشر هذه الأوراق بـ"الجبناء" وأنه "لم يعد يريد تأييدهم". لكن ردود أفعال أنصار ترامب من حركته لم تستجب لمطلبه، إذ إنه في مرة نادرة في منشورات ترامب على منصة تروث سوشال، تتجاوز أعداد التعليقات على أحد منشوراته من يضغطون بالإعجاب بالمنشور، والتي كانت في معظمها تعترض على ما يطالب به الرئيس من إغلاق للملف. بدأ أنصار ترامب في إطلاق حملة "ماغا ضد ترامب" في تحول يكشف لأول مرة كيف بدأ أنصاره في الانفصال عنه بعد سنوات من التأييد المطلق والتام.
ورغم محاولات إدارة ترامب والجمهوريين إخماد القضية، ازداد الجدل حدةً بعد تقرير صحيفة وول ستريت جورنال في 17 يوليو الحالي، الذي تحدث عن رسالة "فاحشة" أرسلها ترامب إلى إبستين في عيد ميلاده الخمسين، تضمّنت رسماً لامرأة عارية وُقّع على جسدها من دون أن يتم نشرها. ومنذ ذلك اليوم بدأ أنصار ترامب، من بينهم الحاصلون على عفو رئاسي، في مهاجمته. ومساء الجمعة الماضي، استجوب تود بلانش، نائب وزيرة العدل الأميركية، لليوم الثاني على التوالي غيسلين ماكسويل، شريكة جيفري إبستين. ورفض بلانش، الذي كان أيضاً في السابق محامياً شخصياً لترامب، الإفصاح عن مضمون ما ناقشه مع ماكسويل في اللقاء غير العادي الذي جمع مدانة بجرائم جنسية مع مسؤول كبير في وزارة العدل. وكشف ديفيد ماركوس، محامي ماكسويل، أنها سُئلت عن "كل شيء" و"أجابت عن كل سؤال" في اليوم الثاني من الاستجوابات في محكمة بولاية فلوريدا. وأضاف أنه لم تُقدّم "عروض" عفو إلى ماكسويل التي تقضي حكما بالسجن لمدة 20 عاماً.
مساء الجمعة استجوب تود بلانش، نائب وزيرة العدل الأميركية، لليوم الثاني على التوالي غيسلين ماكسويل، شريكة جيفري إبستين
آمال ديمقراطية
وبينما يُغلق مجلس النواب مبكراً قبل إجازته الصيفية لمنع تصويت محتمل على الإفراج عن هذه الوثائق، فإن تأثير هذه الضجة في ظل دفاع ترامب المستميت عن عدم نشر الوثائق، واسمه الذي ارتبط بها مع حالة عدم الرضا بين الأميركيين عن الحملة المتواصلة ضد المهاجرين، أعطى آمالاً كثيرة للديمقراطيين لبناء حملتهم الانتخابية لانتخابات 2026 النصفية، التي ستبدأ طرق الأبواب والاستعدادات لها خلال أسابيع. وقضى الديمقراطيون الأشهر الستة الماضية في حالة من التخبط من دون الوصول إلى طريق واضح يمكنهم من مواجهة تغول ترامب وإدارته على السلطة التشريعية، توازياً مع محكمة عليا محافظة يرون أنها منحازة إلى ترامب. فتحت هذه الوثائق الباب أمامهم لبناء خطة واضحة لمخاطبة الناخبين، بعد محاولات مضنية على مدار أشهر للتركيز على انتقاد الأجندة الاقتصادية والتأكيد أنها ستضر الأميركيين ومحدودي الدخل، غير أن وثائق جيفري إبستين كانت الفرصة أمامهم لتأجيج الغضب العام تجاه الجمهوريين في الكونغرس استعداداً للانتخابات المقبلة.
شلّ الديمقراطيون قاعات مجلس النواب بإصرارهم في كل مرة على إجبار الجمهوريين على التصويت على الكشف عن مستندات جيفري إبستين من عدمه، من خلال تذكيرهم بعدم شفافية الجمهوريين وترامب وتنفير حركة "ماغا" الغاضبة بالفعل، وإغضاب الرئيس الأميركي، وبناء جدار يمكن للجميع الالتفاف حوله. وقد صار واضحاً تماماً بالنسبة لكثيرين أن الحزب الجمهوري بات حزب ترامب وليس حزب الجمهوريين، لدرجة إغلاق مجلس النواب رغم وجود جدول تشريعي لقضايا مهمة للتصويت عليها. وقال السيناتور تشاك شومر، الديمقراطي عن نيويورك وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ الأربعاء الماضي: "شبح إبستين المدان يطارد الزملاء الجمهوريين"، واصفاً عطلة الكونغرس في شهر أغسطس/آب المقبل، بأنها "عطلة إبستين". وأشار إلى أن هذه "القضية ستتفاقم كلما طال تهرب الجمهوريين منها في مجلس النواب"، وذلك في إشارة إلى اعتزام الحزب الديمقراطي مناقشة هذه القضية طوال الصيف.
