
مع الارتفاع التاريخي لسعر عملة بيتكوين وتداوله عند مستوى 118.857 ألف دولار وتوقعات مواصلة الزيادة، تحتل العملات الرقمية مكانة متزايدة في اهتمامات الشباب الخليجي الذين يبحثون عن بدائل جديدة للادخار أو الاستثمار، وسط حالة من الحذر والمغامرة على حد سواء. دعم هذه الخطوة الانفتاح الأميركي والعالمي الكبير على العملات الرقمية ومحاولة تقنينها، حيث وقّع الرئيس دونالد ترامب قبل أيام على تشريعات جديدة لتنظيم العملات المشفرة، وأقر القانون المعروف باسم جينيوس أكت (GENIUS Act)، وقبلها تعهد بشكل متكرر بجعل الولايات المتحدة "عاصمة العملات المشفرة في العالم".
كما أن التحولات الرقمية السريعة والمدعومة بمبادرات حكومية لإصلاح الاقتصاد وتنويعه وتعزيز الاستقلال المالي شجعت الأجيال الشابة في الخليج على الانخراط في الاستثمارات الرقمية، حيث يرون فيها فرصة محتملة لتحقيق أرباح سريعة أو حماية مدخراتهم في مواجهة تقلبات الأسواق التقليدية وأزمات التضخم العالمي. وحسب بيانات أوردها موقع مؤسسة كارنيغي الأميركية، فإن هذه الحماسة مدعومة بمعدل انتشار للاستثمار في العملات الرقمية يقارب 19% من السكان في دول الخليج بحلول نهاية العام الجاري، مع تقدير لبلوغ قيمة السوق لحوالي 792 مليون دولار في نفس الفترة، ما يعكس مؤشراً اقتصادياً لافتاً، رغم أن السوق لا تزال في طور النمو مقارنة بأميركا الشمالية وأوروبا الغربية.
ورغم الجذب الهائل لهذه الفرصة الرقمية الجديدة، تختلف الأطر القانونية والتنظيمية لتداول العملات الرقمية بشدة بين دول الخليج، إذ تتبنى الكويت نهجاً متحفظاً تجاه تشريع وتداول تلك العملات، كما رفضت قطر الاعتراف بها وسيلة قانونية للتبادل المالي. إلا أن قطر بدأت مؤخراً بتخفيف موقفها، إذ أقرت تنظيماً جديداً للأصول الرقمية عبر "مركز قطر المالي"، مع توقعات بإتمام الإطار التشريعي بشكل نهائي خلال الربع الثاني من عام 2025 من أجل فتح الأبواب أكثر أمام الابتكار المالي وجذب التقنيات الجديدة إلى السوق المحلية.
في المقابل، تتبنى الإمارات والسعودية والبحرين سياسات أكثر انفتاحاً نحو العملات الرقمية وتكنولوجيا "البلوكشين"، ويظهر ذلك في مشروعات العملات الرقمية للبنك المركزي (CBDC) ومحاولات تعظيم الاستفادة من حلول الدفع الرقمي العابر للحدود، حسب تقرير نشره موقع إيكونومي ميدل إيست، المتخصص في تغطية الأخبار الاقتصادية والمالية بالشرق الأوسط.
مخاطر تقلب العملات الرقمية
لكن المخاطر تظل محدقة بالفئات محدودة ومتوسطة الدخل، فالعملات الرقمية كما يصفها العديد من الخبراء الغربيين، ليست نقوداً اعتيادية بقدر ما هي أصول عالية التقلب والمضاربة، تتأثر بشكل جوهري بالعوامل النفسية والاقتصادية وتقلبات العرض والطلب، وهذا التقلب يجعلها تشكل "مصيدة" للكثيرين من الباحثين عن الثراء السريع، حسب تقرير شركة برايس وترهاوس كوبرز (PwC) الخاص بتنظيم العملات الرقمية لعام 2025. ويورد التقرير أن 75% من دول العالم "تلتزم جزئياً أو لا تلتزم بإجراءات مكافحة غسل الأموال في الأسواق الرقمية"، ما يعكس نقص الحماية التي يواجهها المستثمرون الصغار، خاصة في بيئة التنظيمات غير المكتملة كما هو الحال في دول الخليج.
في ضوء ذلك، ينظر الخبراء إلى العملات الرقمية في دول الخليج باعتبارها سلاحاً ذا حدين: فهي من جهة تمثل منصة واعدة للشباب الباحثين عن الاستقلال المالي وفرص استثمارية جديدة في اقتصاد رقمي سريع التطور، فيما تحمل من جهة أخرى مخاطر مضاربات العملات وخسارة رأس المال أو التعرض للاحتيال، وهو ما فصله تحليلياً خبيران لـ "العربي الجديد".
الأسس التقنية والمالية
المستشار الاقتصادي والخبير المالي هاشم الفحماوي، يشير لـ "العربي الجديد" إلى أن بيتكوين من أبرز العملات الرقمية التي تحظى باهتمام عالمي، ما يعكس طبيعة الهيكل المالي والتنظيمي الذي بُنيت ضمنه، مشدداً على ضرورة التمييز بين العملات الرقمية ذات الأسس التقنية والمالية القوية، وتلك التي لا تمثل سوى عمليات نصب واحتيال تستهدف المستثمرين، خاصة في غياب تشريعات واضحة ورقابية فعالة. ويؤكد الفحماوي وجود عدد كبير من العملات الرقمية "ليس لها أي أصول حقيقية أو مشاريع ملموسة"، واصفاً إياها بأنها "مجرد أدوات للاستثمار الوهمي، وستُشطب في القريب العاجل، بسبب عدم قدرتها على الامتثال للتشريعات الجديدة التي من المتوقع أن تُفرض قبل نهاية عام 2025".
ويتوقع الفحماوي أن تلعب هيئة أسواق المال الأميركية (SEC) دوراً محورياً في وضع قوانين صارمة تنظم هذا القطاع، وتفرض رقابة شديدة على العملات الرقمية، بما في ذلك متطلبات التأمين المالي وإيداع الأموال في البنوك أو البنك الاحتياطي الفيدرالي، ما سيجبر العديد من العملات غير الملتزمة على الخروج من السوق، أو التوقف التام عن التداول. وإزاء ذلك، ينصح الفحماوي المستثمرين من دول الخليج بأن يكونوا أكثر حذراً عند الدخول إلى سوق العملات الرقمية، وضرورة التحقق من مشاريع العملات التي ينوون الاستثمار فيها، لأن هناك عدداً كبيراً منها يُطلق تحت مسميات خادعة، مثل الذكاء الاصطناعي، دون أن يكون لها أي علاقة فعلية بهذه التقنية، ما يعد جزءاً من "عمليات احتيال ممنهجة" حسب وصفه.
من ناحية أخرى، يشير الفحماوي إلى أن بعض العملات الرقمية التي تمتلك مشاريع قوية وشفافة قد تشهد ارتفاعات كبيرة في المستقبل القريب، خاصة إذا تم اعتمادها ضمن التشريعات الجديدة لدول الخليج أو دخلت ضمن منظومة الاقتصادات الرسمية، وهو ما قد يمنحها زخماً استثمارياً قوياً، ويحقق عوائد تصل إلى 300% أو حتى 600% في بعض الحالات. وحسب تقدير الفحماوي، فإن العملات المنظمة من جانب الولايات المتحدة الأميركية، أو لديها مكاتب قانونية ومالية مرتبطة بها في دول أخرى، مثل كوريا الجنوبية والهند، ستكون الأكثر قدرة على التكيف مع هذه التغيرات التشريعية، وبالتالي الأقرب إلى الاستمرارية والنمو، في حين ستتعرض العملات غير المنظمة إلى التصفية التدريجية، وربما اختفاء كامل من السوق خلال فترة قصيرة.
أدوات ربح سريعة
في السياق، يؤكد الخبير الاقتصادي والمستشار المالي، علي أحمد درويش، لـ "العربي الجديد"، أن اهتمام الشباب الخليجي ببيتكوين، إلى جانب العملات الرقمية الأخرى، يعود إلى صفة الحماس التي تميز الشباب وإلى رؤيتهم لهذه العملات بأنها أدوات استثمارية جديدة تتيح لهم فرصة تحقيق أرباح سريعة، ما يُعد من العوامل الرئيسية التي تدفعهم لشرائها، لكن البيئة القانونية في دولهم ليست موحدة إزاء رغباتهم. ففي حين تنظم الإمارات هذا النوع من الاستثمارات ضمن إطار قانوني واضح، تبقى بقية الدول إما متحفظة أو غير مشجعة، حيث لا تمنع الاستثمار الشخصي في هذه العملات، خاصة عبر المنصات الإلكترونية، لكنها في المقابل لا تشجع المضاربة عليها باعتبارها استثمارات عالية المخاطر.
ويشير درويش إلى أن انهيار أسعار هذه العملات في مراحل سابقة تسبب في خسائر مالية كبيرة للكثير من المستثمرين، ما يؤكد خطورة التعامل معها باندفاع، خاصة من قبل فئة الشباب التي قد تتأثر بفكرة الربح السريع دون دراسة المخاطر المرتبطة بها. ويضيف أن هناك فرقاً بين الشباب الذين يستثمرون باعتدال ومعرفة، بعد اطلاعهم على طبيعة الأسواق وحركاتها، وأولئك الذين يدخلون هذا المجال بحماسة زائدة، ودون خلفية كافية، ما يزيد من احتمال تعرضهم للخسارة، محذراً مما وصفه بـ "أكثر الأمور خطورة"، وهو أن يلجأ بعض الشباب إلى الاستدانة لشراء هذه العملات، خاصة إذا تم ذلك على أمل تحقيق أرباح سريعة، في حين أن السوق الرقمية العالمية تشهد تقلبات حادة، وقد تتحول من ارتفاع إلى انهيار مفاجئ، كما جرى في أكثر من مناسبة.
ولذا يشدد درويش على ضرورة أن تقوم الجهات المعنية بتوعية الشباب حول هذه المخاطر، وعدم السماح لفكرة "الربح السريع" بأن تطغى على أهمية الاستثمار المنتج والمستقر، الذي يُبنى على مشاريع حقيقية تسهم في النمو الاقتصادي على المدى الطويل. ويلفت درويش إلى أن ضرورة الالتزام بمبدأ استثماري مفاده أن الاستثمار في الأصول عالية المخاطر، مثل العملات الرقمية، يجب ألا يتجاوز نسبة تتراوح بين 10 إلى 15% من إجمالي ثروة الشخص، لأن تجاوز هذه النسبة يعرض المستثمر إلى خطر فقدان كل شيء دفعة واحدة في حال انهيار السوق.
