تيسر خلف.. "المسيح الأندلسي" في رحلته الروائية
عربي
منذ 22 ساعة
مشاركة

ما زال التاريخ الحقل المحبّب لدى الأدباء لاستلهام موضوعاتهم، إذ يمزج بين الماضي والحاضر، أو يعود إلى الماضي لكتابة الحكاية بطريقة مغايرة، كاشفاً الزوايا المُهمَلة والأصوات المكتومة من خلال التخييل الذي يقدم السير وكأنها تولد للتو، رغم البعد الزمني. هذا النوع من الأدب محبّب عموماً لدى القارئ العربي، فكيف إذا كان مشغولاً بعين الباحث والدارس والروائي المستقصي، كما في رواية "المسيح الأندلسي" (دار المتوسط، 2025)، لتيسير خلف، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2025.

أراد خلف أن يجذب القارئ منذ العتبة الأولى، باختياره عنواناً لافتاً ومثيراً للجدل، يوحي بالفضاء الزمكاني للرواية الذي تناوله أدباء كثر من قبل، مثل أمين معلوف ورضوى عاشور وغيرهم. وكما يرى جيرار جينيه، فإن العنوان، بوصفه عتبة للنص، يحيلنا إلى إسقاطٍ داخل ذلك الفضاء. ومنذ البداية، يبدو العنوان مستمداً من الإحساس الداخلي المحفور في وجدان البطل، حين كان طفلاً ينظر إلى صورة المسيح في حضن مريم العذراء، معتقداً أنها صورته مع أمه التي أبعدت عنه لحمايته أثناء اعتقالها إثر وشاية من مجهول، ثم ماتت تحت التعذيب لأنها مسلمة، تحت سطوة محاكم التفتيش التي كانت تنظر في صدق تحوّل الأندلسيين إلى المسيحية بعد فرض التوحيد الديني في إسبانيا.

يبدأ خلف روايته على لسان البطل، مسترجعاً سيرة حياته بالخطف خلفاً، ليقودنا إلى وقائع وتفاصيل تاريخية هامة، متابعاً شدّ القارئ بسرده السلس وحبكته البوليسية، محافظاً على مستوى ثابت من التأثير والمتعة، رغم كم المعلومات التاريخية والثقافية التي ينثرها هنا وهناك، والأحداث التي تسير مع خيوط حكاية البطل عيسى الأندلسي، الذي تغيّرت حياته بعد أن عرف حقيقة أمه وأبيه وانتمائه الديني، متنقلاً بين جماعتين سريتين نشطتا بين مسلمي الأندلس وهما الأكيحل والأشيقر، واللتان تحملان في تناقض اسميهما دلالة على تناقض سياساتهما وطريقة تعاطيهما مع سلطة الملك، إلى أن اطلع على محضر التحقيق في محاكمة أمه، فقرر الرحيل بحثًا عن الشخص الذي وشى بها.

وعبر هذه الرحلة، نتعرف إلى الأوضاع السياسية والمواجهات العسكرية التي كانت قائمة آنذاك في حوض البحر المتوسط، وإلى نشاط عصابات القرصنة التي كانت تجوب مياهه وتتاجر بالبشر، بالإضافة إلى ما آل إليه وضع المسلمين (الموريسكيين) في إسبانيا، وهجرتهم نحو شمال أفريقيا أو الدولة العثمانية.

يُمعن خلف في مقاربة لغز العنوان من خلال التماثل اللفظي الذي اختاره لاسم الفتى بطل الرواية: فعيسى بن محمد الأندلسي يقابله باللسان الإسباني خيسوس أي "المسيح". فهل أراده رمزاً لوحدة الأديان السماوية بجمع الاسم والدين المختلف؟ أم رمزاً للأندلسيين الذين صُلبوا على خشبة التاريخ وتبعثروا بعد ما قدموه للعالم من علوم وحضارة؟

معضلة الأسماء المزيفة والحقيقية

امتلاك البطل اسمين لم يكن حالة استثنائية؛ فبعد منع اللسان والزي العربي والأسماء العربية، عاش الكثير من الأندلسيين بهوية مزدوجة، إحداهما علنية وأخرى سرية تُخفي الاسم العربي والدين الإسلامي. يقول البطل: "أسماؤنا مثل أرديتنا، نستبدلها نحن الأندلسيون حين نخرج من بيوتنا، وحين نأوي للفراش، وحين نبدل البلاد ببلاد أخرى".

تكمن خطورة تغيير الأسماء وازدواجيتها في ضياع الحقيقة التاريخية والسير الذاتية والموروث الإنساني، وإمكانية نسبتها لآخرين، ما يقود إلى تاريخ مشكوك في وجوده، وأعمال عرضة لإنكار أصحابها الحقيقيين. يوضح خلف ذلك في الإشارة الافتتاحية للرواية، ليُبرز حجم الجهد المبذول في تمييز الأسماء وكشف الخلط والتزوير المرتبط بها. 

اللغة، الزي، الطعام: تفاصيل صغيرة تخبئ أوطاناً كاملة

فرسالة الطبيب الأندلسي حول وباء الطاعون مثلاً، حُفظت في المكتبة الوطنية الفرنسية باسم مختلف عن الاسم الوارد في الوثائق الهولندية. وسيظهر لاحقاً ما يشير إلى صاحب العمل الحقيقي الذي استمد منه ثربانتس رواية "دون كيخوته"، هاميت بن الأنجيلي، وهذا ما يوافق طرح ألبرتو مانغويل في كتابه "شخصيات مذهلة في عالم الأدب"، بأنّ هذه الشخصية قد تكون الكاتب الحقيقي. بل يذهب إلى احتمال أن يكون هاميت هو ثربانتس نفسه، أو أنّ النص برمته عربي الأصل. أما خلف، فيقودنا عبر المقارنات اللغوية إلى اسم أحمد البياسي، جد بطل الرواية.

الهوية الأندلسية السرية

يحاول خلف تسليط الضوء على الهوية الخفية للأندلسيين التي أُخفيت خوفاً من القتل، من زيّهم المميز بألوانه وتفصيله، إلى مطبخهم الغني. فالزي والطعام يشكلان جزءاً من الهوية الوطنية، حتى أن بعض الأطعمة ارتبطت ببلدان معينة.

كما نرى الخطوط الأندلسية الشهيرة كخط الثلث الغرناطي المورق، أما كتبهم فقد بُعثرت في العالم بعد أن أحرق جنود الملك فيليب بن كارلوس المكتبات الكبرى، ولم ينجُ منها إلا القليل الذي تم تهريبه أو وصل إلى الأديرة عبر اللصوص. وهناك، تم انتقاء كتب الكيمياء والرياضيات، بينما أُتلفت كتب الفلسفة والفقه والدين.

وكانت الترجمة ضرورية للقيام بهذا الانتقاء، وهو ما أوقع عيسى في ورطة اختطافه لعامين لترجمة وتصنيف كتب وصلت إلى أحد الأديرة الفرنسية. خلال ذلك قرأ كثيراً، واطّلع على ما فاته، خاصة كتب ابن عربي، التي نقلته إلى عالم آخر حتى زهد في كل شيء وظن القساوسة أنه جُن، فأعيد إلى أصدقائه في السفارة العثمانية.

يتحدث خلف، عبر لسان عيسى، عن التلاعب بالتاريخ، وندرة الأخبار عن مؤسسي الحكم الإسلامي في الأندلس في كتب المشرق، والتناقض في ما ورد عنهم، وكأنها صادرة عن ضغائن، ما يُظهر انتقائية السلطات في تقديم الروايات التاريخية وفقاً لما يخدم مصالحها، سياسياً أو دينياً.

تهز الرواية الثوابت واليقينيات، وتطرح أسئلة الإنسان الكبرى: من مفهوم الخطيئة، إلى البرهان العقلي على وجود الله، وصولاً إلى محاولة الصوفية التوفيق بين الإيمان والفلسفة. كما تناقش فكرة الفرقة الناجية في كل الأديان، معتبرة أن هذا الادعاء لا يعكس سوى القلق الوجودي والسعي وراء وهم الطمأنينة. ويُذكّرنا بقول ابن عربي: "إن الله تعالى أوسع وأعظم من أن تحصره عقيدة دون غيرها".

 

* شاعرة وكاتبة سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية