
في قمة ساخنة انعقدت، أمس الخميس، في بكين بين قادة الاتحاد الأوروبي والرئيس الصيني شي جين بينغ، عبر الأوروبيون عن نفاد صبرهم إزاء تفاقم العجز التجاري مع الصين وتفاقم التوترات التجارية، بينما حذر شي بروكسل من مغبة "بناء الجدران والانعزال" مع دعوات لضبط النفس. القمة الأوروبية الصينية انعقدت بمناسبة الذكرى الخمسين للعلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد الأوروبي والصين، بقاعة الشعب الكبرى في بكين، وسط أجواء مشحونة بالتوتر الاقتصادي، وشهدت تصريحات صريحة غير معتادة من الجانبين. وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، في مستهل القمة: "لقد تعمقت علاقاتنا، لكن معها تعمقت الاختلالات". وأشارت إلى أن العلاقات التجارية مع الصين بلغت "نقطة تحول" تستدعي إعادة التوازن، مشددة على أن الاتحاد الأوروبي "فقد صبره" حيال استمرار اختلال الميزان التجاري وغياب المعاملة بالمثل. وطالبت باتخاذ خطوات ملموسة لخفض العجز التجاري الأوروبي مع الصين، بحسب "أسوشييتد برس".
ورد الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال القمة برسائل واضحة، دعا فيها الاتحاد الأوروبي إلى "التمسك بالتعاون المنفتح ومعالجة الخلافات بروح بناءة"، مشدداً على أن "بناء الجدران والانفصال الاقتصادي سيقود إلى العزلة فقط"، وفق ما نقلته وكالة شينخوا الرسمية. وأشار شي صراحة إلى أن التحديات التي تواجه أوروبا "لا تأتي من الصين"، بل من ظروف عالمية معقدة تشمل التوترات الجيوسياسية والحرب التجارية المتصاعدة مع الولايات المتحدة. وطالب شي الاتحاد الأوروبي بعدم استخدام ما وصفه بـ "أدوات اقتصادية مقيدة" ضد الشركات الصينية، مشدداً على ضرورة توفير بيئة استثمارية مستقرة وآمنة للمؤسسات الصينية في الأسواق الأوروبية.
العجز التجاري وعقدة السيارات الكهربائية
أحد أبرز الملفات الشائكة التي طرحتها القمة كان العجز التجاري الأوروبي مع الصين، الذي بلغ 305.8 مليارات يورو في 2024، بزيادة قياسية بلغت 20% عن العام السابق، بحسب إحصاءات المفوضية الأوروبية. وفيما يتعلق بالصادرات، اتهمت بروكسل بكين بإغراق السوق الأوروبية بالسيارات الكهربائية الرخيصة، المدعومة من الحكومة الصينية. وقالت فون ديرلاين في تصريحات نقلتها "فايننشال تايمز" إن "الإغراق الصيني يهدد 2.5 مليون وظيفة في صناعة السيارات الأوروبية، و10.3 ملايين وظيفة مرتبطة بها بشكل غير مباشر".
وردت الصين بالمثل، حيث فرضت مؤخراً تحقيقات تجارية على منتجات أوروبية مثل اللحوم الفرنسية والأجبان، كما شددت الرقابة على صادرات المعادن الأرضية النادرة، التي تستخدم في تصنيع السيارات والتكنولوجيا المتقدمة. وفي تطور لافت، كشفت بيانات الجمارك الصينية، أن صادرات الصين من مغناطيسات العناصر النادرة إلى أوروبا ارتفعت بنسبة 245% خلال يونيو/حزيران مقارنة بمايو/أيار الماضيين، رغم أنها لا تزال أقل بنسبة 35% عن نفس الفترة من العام السابق، مما يشير إلى مرونة بكين في استخدام الورقة التجارية.
ويرى مراقبون أن السبب الرئيسي للعجز التجاري الأوروبي مع الصين هو اعتماد أوروبا الكبير على الواردات الصينية في القطاعات التقنية والصناعية، لا سيما مكونات السيارات والمنتجات الإلكترونية النادرة. وبحسب "رويترز"، فإن الاتحاد الأوروبي لا يزال يعتمد بنسبة تفوق 80% على الصين في توريد المعادن الأرضية النادرة، الضرورية لصناعة البطاريات والمغناطيسات والرقائق الدقيقة. كما يواجه القطاع الصناعي الأوروبي صعوبات في مواجهة سياسة الدعم الحكومي التي تعتمدها بكين، ما دفع المفوضية لفتح سلسلة من التحقيقات ضد الشركات الصينية المتهمة بالإغراق.
وتتركز الشكاوى الأوروبية خصوصاً في قطاع السيارات الكهربائية، حيث يتهم صانعو السيارات الأوروبيون، مثل "فولكسفاغن" و"رينو"، نظراءهم الصينيين بإغراق السوق بطرازات منخفضة السعر مدعومة بشكل غير تنافسي. ووفق "فايننشال تايمز"، ارتفعت حصة الصين من سوق السيارات الكهربائية الأوروبية إلى أكثر من 8% في النصف الأول من عام 2025، مقارنة بنسبة 4.7% في الفترة نفسها من العام السابق، وهو ما اعتبره الاتحاد الأوروبي تهديداً مباشراً لصناعته المحلية.
أوروبا بين فكي كماشة
تأتي القمة الأوروبية الصينية في وقت يتصاعد فيه التوتر بين واشنطن وبكين. ومع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن حزمة رسوم جمركية جديدة على واردات السيارات الصينية بنسبة 30%، تشعر أوروبا أنها وسط فكي كماشة: فلا هي قادرة على مجابهة الصين منفردة، ولا على إغضاب واشنطن، بحسب تحليل "فايننشال تايمز". وقالت الصحيفة البريطانية إن مسؤولي الاتحاد الأوروبي يشعرون بالقلق من أن "أي تقارب مفرط مع بكين قد يستفز إدارة ترامب"، ولذلك يتبنون سياسة مزدوجة: الضغط على الصين تجارياً، مع التمسك بتحالفاتهم الاستراتيجية الغربية. من جهته، قال كبير اقتصاديي مركز السياسات الأوروبية، فابيان زوليغ، لوكالة أسوشييتد برس: "الاتحاد الأوروبي يسير على حبل مشدود: لا يريد خسارة السوق الصينية، لكنه لا يستطيع تحدي ترامب علناً. هذه المعادلة تعقد أي تقارب فعلي بين بروكسل وبكين".
ولم تقتصر القمة الأوروبية - الصينية على الملفات التجارية فقط، بل حضرت الحرب في أوكرانيا بوصفها من أكثر القضايا حساسية. فقد دعا رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، الصين إلى استخدام نفوذها السياسي والاقتصادي لدى موسكو لـ "إنهاء الحرب بأسرع وقت ممكن"، وفق "أسوشييتد برس". وأكد كوستا أن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى بكين على أنها طرف قادر على لعب دور محوري في الحد من التصعيد، وليس مجرد مراقب بعيد.
وفي المقابل تجاهل الرئيس الصيني الدعوة بشكل مباشر، مكتفياً بالدعوة إلى حلول سياسية تراعي المصالح الأمنية لجميع الأطراف، دون إشارة إلى روسيا أو مسؤوليتها عن استمرار الحرب. كما أعرب عن رفضه للعقوبات الأوروبية الأخيرة التي شملت بنكين صينيين بسبب اتهامهما بتقديم خدمات مالية لقطاع التصنيع العسكري الروسي، بحسب "فايننشال تايمز". وردت وزارة التجارة الصينية على تلك العقوبات ببيان رسمي وصفتها فيه بأنها انتهاك صارخ للقواعد الاقتصادية العالمية، متوعدة باتخاذ إجراءات ضرورية لحماية مصالح المؤسسات المالية الصينية، ما زاد من تعقيد مسار القمة وقلص فرص التوصل إلى تفاهمات سياسية حقيقية.
وفي السياق ذاته، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية، إن استمرار دعم بكين لقطاعات صناعية روسية أو التغاضي عن صادرات "ثنائية الاستخدام" يعرض العلاقات الثنائية لمزيد من التدهور، معتبرة أن أوروبا "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام من يمكن آلة الحرب الروسية"، بحسب "واشنطن بوست". لكن مراقبين أوروبيين قللوا من جدوى الضغط على بكين في هذا الملف تحديداً، مشيرين إلى أن الصين، التي ترى في الحرب فرصة لإضعاف الغرب اقتصادياً، لن تغامر بتقويض تحالفها الاستراتيجي مع روسيا. وقالت "رويترز" إن بكين باتت أقل رغبة في الاستجابة للمطالب الأوروبية منذ أن خففت الولايات المتحدة لهجتها في الحرب التجارية، ما منح الصين هامشاً أكبر في مواجهة شركائها الأوروبيين دون تقديم تنازلات.
نقاط اتفاق محدودة
ورغم حدة الخلافات، أبدى الطرفان اهتماماً بالتوصل إلى بيان مشترك بشأن المناخ، تمهيداً لقمة الأمم المتحدة المرتقبة في البرازيل، نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وهو ما وصفه المراقبون بـ "المنفذ الوحيد" لإنقاذ القمة من الفشل الكامل، وفق "واشنطن بوست". كما دعا شي إلى "التركيز على التعاون، وتجنب القطيعة التجارية"، قائلاً: "تحسين التنافسية لا يتم ببناء الأسوار، بل بالتعاون والاندماج." لكن دبلوماسياً أوروبياً رفيعاً قال لـ"فايننشال تايمز" إن "الصين تتحدث عن التعاون، لكنها عملياً لا تقدم تنازلات"، مشيراً إلى أن محاولات بروكسل لتعديل قواعد المنافسة ما زالت تصطدم بتعنت بكين.
ويرى خبراء في الاقتصاد السياسي أن أوروبا تحاول بناء "استقلالية استراتيجية"، لكنها لم تترجم هذا الطموح إلى أدوات فعلية، لا في التجارة ولا في السياسة. وقال نواه باركين، من مجموعة روديوم، في مقابلة مع "بلومبيرغ": "الصين تشعر الآن أنها انتصرت في المواجهة مع ترامب، وتستنتج من ذلك أن استراتيجية الصمود تفوق التنازلات. وهذا يقلل من فرص أي تفاهم حقيقي مع أوروبا".

أخبار ذات صلة.

