
في تحوّل مفاجئ يعكس طبيعة أسلوبه غير التقليدي، لمّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى احتمال تخفيف حملة "الضغط الأقصى" ضد إيران، وهي الحملة التي شكلت ركيزة أساسية في سياسته الخارجية منذ انسحابه من الاتفاق النووي في 2018. وجاءت تصريحاته الأخيرة، التي أبدى فيها تساهلاً إزاء استمرار الصين في شراء النفط الإيراني، لتثير جدلاً واسعاً داخل أوساط السياسة الأميركية وأسواق الطاقة العالمية، لا سيما أنها تزامنت مع ضربات جوية أميركية استهدفت منشآت نووية إيرانية. هذه التطورات تطرح تساؤلات جدية حول مستقبل العلاقة بين واشنطن وطهران، وما إذا كان ترامب بصدد التحوّل من سياسة الخنق الاقتصادي إلى مقاربة أكثر مرونة تقوم على المعاملات وتبادل المصالح.
وخلال قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في هولندا هذا الأسبوع، صرّح ترامب بأن إيران بحاجة إلى المال لإعادة بناء نفسها، مضيفًا: "إذا كانوا سيبيعون النفط، فسيفعلون ذلك"، في تجاهل واضح للسياسات التي فرضتها إدارته والتي هدفت إلى وقف صادرات النفط الإيرانية بالكامل، وفقاً لـ"بلومبيرغ". وقد أربكت هذه التصريحات المتداولين في أسواق النفط وبعض أعضاء إدارته، وكانت تذكيرًا إضافيًا لأصدقائه وخصومه على حد سواء بمدى التقلّب المفاجئ في توجهاته السياسية.
وبحسب ما نقلته "بلومبيرغ"، قال بهنام بن طاليب لو، مدير برنامج إيران في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: "إذا كان هناك وقت مناسب للضغط الأقصى، فهو الآن، بعد الضربات"، مشيرًا إلى أن مؤسسته لطالما دعت إلى تشديد العقوبات الاقتصادية على إيران. وأضاف: "تحتاج واشنطن إلى استراتيجية تحدّ من الموارد والعائدات المتاحة لهذا النظام، لضمان عدم تمكنه من إعادة بناء نفسه".
وكان ترامب قد تبنّى هذا النهج المتشدد خلال ولايته الأولى بعد انسحابه من الاتفاق النووي الذي وقعته إدارة أوباما مع إيران عام 2015، ثم أعاد تفعيله عبر مذكرة رئاسية للأمن القومي بعد أسابيع من بداية ولايته الثانية. وقد أدت هذه الخطوة إلى فرض سلسلة من العقوبات الجديدة استهدفت قطاع النفط الإيراني — المصدر الأساسي لعائدات البلاد — وسلاسل التوريد المرتبطة به، رغم استمرار المحادثات بين واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووي.
حالياً، يبدو أن ترامب يدرس إمكانية فتح باب جديد للحوار مع إيران، مقدمًا تخفيف العقوبات كـ"جزرة كبيرة"، وفق ما تراه دينا إسفنديار، المسؤولة عن شؤون الجغرافيا الاقتصادية للشرق الأوسط في "بلومبيرغ إيكونوميكس". وقالت إسفنديار: "أعتقد أن تصريحاته تمهد لتخفيف العقوبات، وبالتالي لتراجع تدريجي في سياسة الضغط الأقصى".
ويُعد تخفيف القيود على مشتريات الصين من النفط الإيراني خطوة أساسية في هذا السياق. فرغم تراجع الشحنات أخيرًا بفعل تشديد العقوبات الأميركية وضعف الطلب، تُظهر بيانات مستقلة أن الصين لا تزال أكبر مستهلك للنفط الإيراني، لا سيما من خلال المصافي المستقلة المعروفة باسم "المصافي الصغيرة". وللتحايل على العقوبات، كثيرًا ما تُموَّه واردات النفط الإيراني لتظهر وكأنها قادمة من دول مثل ماليزيا.
من جهتها، حذرت زينب ربوعة، الزميلة البارزة في معهد هدسون بمركز السلام والأمن في الشرق الأوسط، من تخفيف القيود على تجارة النفط الإيرانية، معتبرة أن مشتريات الصين "تُسهم بشكل غير مباشر في تمويل الترسانة العسكرية الإيرانية وشبكاتها بالوكالة". ومع ذلك، ترى ربوعة أن تصريحات ترامب لا تعني تحولًا فعليًا في السياسة، بل تشكل إشارة محسوبة إلى أسواق الطاقة لتفادي ارتفاع كبير في الأسعار. وقالت: "هو شخصية يصعب التنبؤ بها، والصينيون والإيرانيون يدركون جيدًا أن تلك التصريحات لا تعني بالضرورة تقاربه معهم"، وفقاً لـ"بلومبيرغ".
تحولات في سياسة العقوبات: من الخنق الاقتصادي إلى المساومة الجيوسياسية
وفي الواقع، أوضح ترامب أنه لا ينوي رفع العقوبات المفروضة على إيران حاليًا. فبعد منشوراته الأخيرة، صرّح مسؤول كبير في البيت الأبيض لوكالة "بلومبيرغ" بأن القيود ستبقى سارية. ومع ذلك، فإن هذه التصريحات "تسلّط الضوء على المنظور المعاملاتي الذي ينظر من خلاله الرئيس إلى هذه الأزمة"، بحسب سوزان مالوني، نائبة الرئيس ومديرة برنامج السياسة الخارجية في مؤسسة بروكينغز. وأضافت مالوني: "نحن نمر بلحظة شديدة الالتباس في ما يتعلق بسياسة العقوبات على إيران".
جعل دونالد ترامب من "الضغط الأقصى" على إيران حجر الزاوية في تعامله مع طهران، منذ توليه ولايته الأولى، تمثل ذلك أولاً في انسحابه من الاتفاق النووي المبرم عام 2015، والذي كان يهدف إلى تقييد البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات، ثم في فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية القاسية التي شملت قطاع النفط، والصناعات البتروكيميائية، والمصارف الإيرانية، إضافة إلى الحرس الثوري وشبكات تمويله الخارجية.
لكن، ورغم هذه الضغوط، أبدت إيران قدرة على التكيّف عبر أدوات عديدة، أبرزها: التحايل على العقوبات، تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا، وتوسيع نفوذها عبر وكلائها في العراق ولبنان وسورية واليمن. كما استمرت في تطوير برنامجها النووي بوتيرة متسارعة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق.
في هذا السياق، يُعد تصريح ترامب الذي أشار فيه إلى أن الصين "يمكنها الآن شراء النفط الإيراني" خروجًا لافتًا عن الخطاب الصارم الذي تبناه سابقًا، خصوصًا في مايو/أيار عندما شدد على ضرورة وقف جميع مشتريات النفط الإيراني فورًا. كما أن تصريحه خلال قمة الناتو في هولندا بأن "إيران تحتاج إلى المال لإعادة بناء نفسها" يُوحي بتبنّيه لمنظور أكثر براغماتية حيال الأزمة، قد يُمهّد لفتح باب التفاوض مجددًا.
مع ذلك، لم يصدر عن الإدارة الأميركية أي إعلان رسمي بشأن تخفيف العقوبات، بل أكد مسؤولون في البيت الأبيض أن الإجراءات الاقتصادية الصارمة ستبقى سارية. هذا التباين بين التصريحات الرسمية ومواقف ترامب يفتح باباً واسعاً للتأويلات، خصوصاً في ظل تقارير تتحدث عن نيته استخدام سياسة "الجزرة والعصا" في سبيل التمهيد لاتفاق جديد.
إضافة إلى ذلك، تُعد الصين لاعباً أساسياً في هذا المشهد، إذ لا تزال أكبر مستورد للنفط الإيراني رغم العقوبات، وتستخدم طرقاً ملتوية – كإخفاء مصدر الشحنات أو تمريرها عبر ماليزيا – لتفادي الكشف عنها. ومن هنا، فإن أي تلميح أميركي بتخفيف القيود قد يُفسَّر من بكين وطهران على أنه فرصة لتعزيز التعاون وتوسيع التجارة النفطية، الأمر الذي قد يُقوّض أهداف "الضغط الأقصى".

Related News
