عربي
بعد عملية 7 أكتوبر؛ أتذكّر أنّ موقف رئيس الحكومة الكندية السابق، جاستن ترودو، كان مخزياً ومُنحازاً لإسرائيل بعد كلّ ما ارتكبته من إبادة بحقّ الشعب الفلسطيني. علّقت حينها، بغضب، تحت تغريدة له في منصة إكس، "سيد ترودو، أنت عار على القيم الليبرالية الحقيقية. أنت ونتنياهو ستسقطان قريباً". لم يحدث أيّ شيء بعدها، ولم يتنمّر عليّ أحد. ومضت الأمور كالمُعتاد. سقط ترودو، وقريباً سيسقط نتنياهو.
أستعيد هذه الواقعة اليوم لأني صُدمت بحملة مُخيفة لتنمّر مُرعب على منصّة فيسبوك ضدّ شخص سخر من الرئيس السوري أحمد الشرع، وكتب أنّه يستحق جائزة الأوسكار كأفضل ممثّل. ما كان مجرّد نكتة أو تعليق ساخر قُرئ على الفور على أنّه تعدٍّ على "رمز الوطن" و"صمام الأمان"، فتحوّل النقاش الفيسبوكي من حديث عن الأوسكار إلى حملة تخوين وتنمّر جماعي.
جزء من هذا التنمّر قد يعود إلى مواقف الضحية نفسه، فكتاباته اتسمت بالتذبذب؛ مرّة يمدح الرئيس أحمد الشرع وأخرى يهاجمه، وهو ما فسّره بعضهم بالانتهازية أو النفاق. لكن اللافت أنّ هذا "التكويع" (كما يسمّيه السوريون) ليس حكراً على المُنتقد وحده. فالرئيس أحمد الشرع نفسه غيّر مواقفه مراراً، وبشكل أوسع وأخطر. فمنذ كان قائداً في جبهة النصرة رفع شعارات دينية مُتشدّدة، ثم "كوّع" ليقدّم نفسه لاحقاً زعيماً وطنياً جامعاً، ثم "كوّع" مجدّداً نحو خطاب مدني دولتي أمام المجتمع الدولي. حتى في مواقفه السياسية الداخلية، يتأرجح بين رفع شعارات الثورة، ومغازلة فكرة "الاستقرار" التي طالما استخدمها النظام السابق.
هذا التقلّب المستمر جعل الشرع في نظر مؤيديه "سياسياً براغماتياً يعرف كيف يناور"، لكنه في نظر منتقديه مجرّد استمرار لثقافة الالتفاف والانتهازية. والمفارقة أنّ أولئك الذين يتهمون ناقداً عادياً بالتذبذب أو النفاق؛ يتغاضون عن "تكويعات" الرئيس نفسه، بل يبرّرونها باعتبارها "حكمة سياسية".
تحوّل النقاش الفيسبوكي من حديث عن "الأوسكار" إلى حملة تخوين وتنمّر جماعي
في ثقافةٍ ترى الولاء مسألة مطلقة؛ يصبح التردّد أو مراجعة الموقف نوعاً من الخيانة عندما يصدر من فرد عادي، في حين يُعتبر دهاءً وحنكةً سياسية عندما يأتي من الزعيم. النتيجة أنّ النقاش العام يظل هشّاً وسطحيّاً، فبدل مساءلة الرئيس عن مواقفه المتناقضة؛ تُسلّط الأضواء على حياة الأفراد ونيّاتهم، ويُفتح باب التشهير والتنمّر والاتهامات بالجنون والمرض النفسي.
منذ عهد البعث؛ صُوّر الرئيس بصفته قائداً خالداً وأباً للأمة، إلى درجة أنّ المدارس والإعلام والشعارات حتى في المناسبات الاجتماعية كانت تذكّر الناس يومياً بأن الرئيس ليس موظّفاً عاماً بل قدراً إلهياً، ولم يُنهِ سقوط الأسد هذه الثقافة، بل دوّرها في قالب جديد، فأحمد الشرع أصبح يُقدَّم كـ "مخلّص" و"تاج على الرؤوس"، وبالتالي من يجرؤ على السخرية أو النقد يُقصى خارج الصف الوطني ويُنبذ اجتماعياً.
إنّ التشبّث بالرمز الفردي له أسباب عدّة: غياب المؤسسات، حيث تُختزل الدولة في شخص واحد، والحاجة إلى الأب الحامي في أوقات الفوضى، والأهم من ذلك الإرث الثقافي الطويل الذي جعل أجيالاً كاملة تتربّى على أنّ الزعيم معصوم عن الخطأ. ولا شك في أنّ كسر هذه الحلقة يتطلّب بناء ثقافة مدنية يتعلّم فيها الأطفال أنّ المواطنة تعني الولاء للدستور والقانون لا لشخص، وأنّ تداول السلطة عبر انتخابات حقيقية يجعل الرئيس يأتي ويذهب، وبالتالي لا قداسة له. كذلك لا بُدّ من ترسيخ المحاسبة والشفافية حيث يخضع الرئيس للمساءلة كأيّ موظف حكومي، وتطبيع النقد والسخرية حتى يصبح من الطبيعي أن يُنتقد في الإعلام أو يُسخر منه في الكوميديا. وبالتوازي؛ ينبغي إعادة تعريف الوطنية لتصبح التزاماً بالقيم المشتركة مثل العدالة والحرية، لا ولاءً لشخص مهما علا شأنه.
ينبغي إعادة تعريف الوطنية لتصبح التزاماً بالقيم المشتركة مثل العدالة والحرية، لا ولاءً لشخص مهما علا شأنه
هذا التحوّل لن يحدث بين ليلة وضحاها، بل يحتاج إلى تراكم طويل من التربية والتجربة الديمقراطية وتكرار انتقال السلطة. وربما يحتاج السوريون إلى جيل جديد يترعرع على فكرة أنّ الرئيس هو موظف في خدمة الشعب، لا قائداً مُلهماً أو مخلّصاً، وعندها فقط يصبح منصب الرئاسة وظيفة عمومية، ويصبح الرئيس مسؤولاً يمكن أن يخطئ أو يُحاسب، لا رمزاً يعلو على النقد.
إنّ واقعة "الأوسكار" ليست مجرّد نكتة عابرة ولا حملة تنمّر عادية، بل هي مرآة تكشف مدى تغلغل ثقافة تقديس الرئيس في اللاوعي الجمعي السوري. وما لم يتحرّر السوريون من هذه الذهنية؛ سيبقى طريقهم نحو بناء دولة حديثة قوامها المؤسسات لا الأفراد، والمساءلة لا التقديس، طريقاً طويلاً وشاقاً.