
(*) الجانب النباتي في الفيلم وارتباطه بفكرة الجمود، وتصوير الفضاءات الفارغة والموحشة وإحالتها إلى فكرة الاغتراب، كلّها أشياء نلمسها في أفلامٍ مصرية أخرى مهمّة أُنجزت في السنوات الأخيرة، كـ"لا أحد هناك" لأحمد مجدي، و"ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح. هل تعتقد أنّ هذه الأفلام تؤشّر على تشكّل تيار سينما اغتراب في السينما المصرية؟
أترك هذا لقراءتك، إذْ يصعب عليّ الحكم في ظلّ انشغالي وغوصي في عملي. منظور النقد مهمّ، لأنّ الفنان ليس واعياً تماماً بما يصنعه، ومن أدوار النقد، كما تعلم، أنْ يأتي في مرحلة موالية، ويقول: "يوجد أمرٌ ما يحدث هنا". الانشغال بالعمل والغرق فيه يجعلانك كـ"حمار مربوط في ساقية" (يضحك). تدور وتدور حول الفكرة نفسها، وتفاصيل بعينها، فتغدو غير قادر على الوعي بكل أبعاد العمل، وتقاطعاته مع أعمال أخرى.
(*) كيف اشتغلتَ على تصوّر الفضاء؟ خصوصاً أنّ في طريقة تصويرك القاهرة فارغةً محواً لأبعاد المكان. لكنْ، هناك في الوقت نفسه، شعورٌ دفين بأجواء القاهرة.
القاهرة مدينة جدّ غريبة وشديدة العنف بصرياً، وفاقدة أي نوع من أنواع الانسجام. ما إنْ تنتقل من منطقة إلى أخرى، حتى تجد صعوبة لتستوعب أنّك لا تزال في المدينة نفسها. يدور فيها صراعٌ طبقي ضارٍ، وهناك أشكال متعدّدة منه. هذا ما سمح لي بأنْ أتصوّر أنّ القاهرة يُمكن أنْ تغدو مكاناً خيالياً. هناك لفظة بالعامية المصرية تُعبّر جيداً عن هذا: "التلصيم"، معناها أنّك بدلاً من أنْ تصلح مائدة، تُرقّع الخلل مؤقّتاً ببرغي من هنا، وحبل من هناك.
أرى أنّ القاهرة مدينة "مُلصّمة". مدينةٌ تبدو على شفا كارثة في كل لحظة، لكنّها تأبى أنْ تنهار. هذا جعلني أنظر إليها كمكان خيالي. كان سهلاً عليّ أنْ أحدّد الأماكن المؤاتية لهذه الرؤية، خصوصاً أنّي تربّيت فيها، وأعرفها جيّداً.
في الوقت نفسه، أجد في ذلك بلاغاً سياسياً بشكل من الأشكال، خصوصاً في اختيار اللون. لست فناناً تشكيلياً، ولم أدرس اللون بحيادية. في "نظرية الألوان" (عمل ليوهان فولفغانغ فون غوته، يطرح فيه نظرته عن طبيعة الألوان والأطياف، وكيفية إدراك الإنسان لها. نُشر للمرّة الأولى عام 1810 ـ المحرّر)، يقول المؤلّف إنّ المجتمعات المتخلّفة والبربرية تميل إلى الألوان الفاقعة، والمدن المتحضّرة والجميلة إلى الألوان الراسخة. يولّد هذا عندي غضباً. في اختياري الألوان نقدٌ لهذه الجملة، ومخالفةٌ لرؤية الجمال بمنظور استعماري.
تنتابني رغبةٌ في العثور على منطق آخر لرؤية الأشياء. هذه المباني المهترئة والباهتة ليست خِرباً أو "خرابات"، رغم أنّ الجميع في بلدي ربما يرونها كذلك. لا أزال مُصمّماً أنها حيطان تحمل الكثير من عرق الإنسان. درجات الألوان المتعدّدة تدلّ على إعادة استخدام الحائط نفسه مع تعاقب الأجيال، ما يعكس تاريخاً وبشراً ومعاناة، وربما مكاناً لتخمير الأفكار.
(*) للحشيش دورٌ أساسي في الفيلم. موجودٌ في كل المَشاهد تقريباً، أوde tous les plans بالتعبير الفرنسي. ما نظرتك للحشيش في الفيلم؟ أملاذٌ، أمْ وسيلة فرار من الواقع، أمْ شيء آخر؟
لا بالعكس، أرى أنّ الحشيش أمرٌ واقعٌ تماماً، وأصيل ثقافياً في مجتمعاتنا. لا بُدّ من وقفة للتفكير به، والتعامل معه على أساس منطق العلاج النفسي القديم والأزلي في بلداننا. نحن لم نعرف كزانكس (Xanax) أو بروزاك (Prozac)، لكنّنا كنا نتعامل مع الحشيش، من سالف العصر والأوان، ملاذاً لإيجاد نوع من التوازن النفسي.
لاستخدام الحشيش في الفيلم بعدٌ سياسي بدوره، يطرح سؤالاً عن دواعي تعاطيه بوفرة، بغض النظر عن كوننا ضدّ هذا الاستعمال أو معه. سؤال الحشيش بالنسبة إليّ ضخم، علاوة على أنّي أراه مكاناً للتفكير، وملاذاً لراحة الشخصيات، لأنّي تربّيت في مجتمع جلّه يتعاطى الحشيش، من المثقفين إلى العمّال.
من الأشياء التي سعيت إليها انتقاد النظرة المحافظة أو الأخلاقية للحشيش.
(*) "مُعطّراً بالنعناع" عبارة عن ديستوبيا بشكل ما. لكنْ، بدل مظاهر التسلّط والقمع التي نراها عادة في الأفلام الديستوبية، هناك أطيافٌ أو ظلالٌ تتعقّب الشخصيات، ربما تعبّر عن استهاماتها أو هواجسها، أو حتى ذكريات تقضّها. ما الفكرة وراء هذه الظلال بتصوّرك؟
بالنسبة إليّ، الظلال أشياء لها علاقة بظلّ كارثة. هناك كارثة مضت، لكنْ لا يزال ظلّها موجوداً. ظلّ كارثة الربيع العربي بشكل عام على المنطقة بأسرها، وليس على مصر فقط. بينما نحن نتحدّث، نرى ما يحدث في سورية اليوم، وفي أماكن أخرى، وكلّها توابع لهذا الحدث. لا أحاكم الربيع العربي، بل أرى فيه لحظة إدراك ووعي. لكنّه أيضاً لحظة سذاجة سياسية، وبالتالي ظلّ لكارثة مستمرة. الجميل في فكرة الظلّ أنّه يعبّر عن غياب. لكنْ، لا يزال أمرٌ ما باقٍ وراء الغياب. إنّه حضور أكثر منه وجود.
(*) من هذا المنطلق، يُمكن أنْ نرى في مشهد تذوق النعناع، الذي ينبت في الرؤوس، تصوّراً يوحي بأنّ لكل شخصية ذكرى عن الربيع العربي، عاشها بطريقة مختلفة عن الآخرين.
بالضبط. الجميل أيضاً في فكرة الظلال أنّ هناك من يرى فيها سؤالاً وجودياً، وآخر ينظر إليها كسؤال سلطوي. هناك قراءات مختلفة لها، وهذا مصدر استمتاع شديد بالنسبة إليّ، لأنّي لا أصنع يقيناً، بل أتيح فرصةً للنقاش داخل الخيال. أعتقد أنّ الأسطورة فنّ المهزومين. أرى نفسي من جيل مهزوم، ولا أخجل من ذلك. هذا ما ولّد لديّ رغبة في صنع أسطورة عن مهزومين غاب عنهم العدل، باعتبار أنّ العدل سؤالٌ شعري. هذا الجانب الواقعي في الفيلم، بنظري. يتجلّى واقع العالم العربي في أنّه دائم البحث عن العدل في الخيال، لأنه يفشل في العثور عليه مادياً.
(*) في مشهدٍ، تصف شخصيةٌ الحشيشَ بجملة بديعة: "هذا خيالٌ خام".
نعم. إنّها مادية الخيال. الحشيش تعبيرٌ عن المادية، ولا أرى اللجوء إليه إدماناً. هذه نظرة استشراقية ظالمة للمجتمع العربي. اللجوء إلى الحشيش سؤالٌ سياسي أساساً، كما أسلفت.
(*) رغم جدّيته، تتخلّل الفيلم لمحات كوميدية بين فينة وأخرى، كمشهد اللقاء بالشيخ المتديّن العامل في وكالة الكهرباء، والإحالة فيه إلى سؤال الدين ومآزق التديّن. كيف اشتغلت على هذا الجانب الكوميدي في الحوار، وما أهمية سؤال التديّن في تصورك للربيع العربي؟
هذا سؤال جميل ومركّب. جماهيرياً، أي على مستوى ثقافي وشعبي، أعتقد أنّه لا يوجد نقاش جادّ في ثقافتنا لا يخلو من الفكاهة، حتى عند أعتى المثقفين. منطق التعبير العربي يظلّ فكاهياً في أساسه، يبحث عن الضحك، ويتعامل مع الجدية بحكمة. الفكاهة نوع من أنواع الحكمة، خصوصاً عند التعاطي مع أمر جلل، يتجاوز طاقة الإنسان. تجسّد الكوميديا في التعبير العربي بحثاً عن نوع من أنواع التفاوض مع ما يفوق قدرة الإنسان على التحمّل.
جواباً على الشق الثاني من سؤالك، أنا لا أسائل الدين بحدّ ذاته، لأنّ ذلك يتجاوز طاقتي. لكنْ، هناك ممارسة معينة أو نوع من الممارسة الدينية، وهي التواكل، أردتُ التطرّق إليها في هذا المشهد. عندما يتوكل الإنسان على الله بشكل متقاعس، ويعوّل على والدته في أشياء أخرى، ويظلّ يتواكل في كل جوانب حياته. ارتباط هذه الممارسة بسؤال عدم تحديد الموقع من الصراع مهمّ لي.
(*) الأمر مرتبط بشكل من أشكال التديّن أكثر من الدين إذاً.
تماماً. الإنسان هو أصلاً من يُعبّر عن الدين. فإنْ عبّر عنه بالحسنى، يصبح حسناً، وإنْ عبر عنه بالسوء، يعتقد الناس أنّه سيئ بالضرورة. الجامع لا يبني نفسه، لكنْ حين يُبنى بجمال وفنّ، يصبح بحدّ ذاته بلاغاً. مظاهر التديّن، منذ بناء الجامع إلى شكل الأحذية في عتبته، تمثّل بلاغاً عن الدين. حين تجد الناس تصطف بانتظام، وملابسها نظيفة، في ذلك أيضاً بلاغ. الصلاة لا تصلّي نفسها، والقرآن لا يقرأ نفسه، في نهاية المطاف.
(*) لا يمكن إنهاء هذا الحوار من دون الحديث عن شخصية علي، وتعبيرك عن الاغتراب من خلال تحوّلها إلى نبات. كيف وجدت الجرأة للمجازفة بهذا الاختيار؟
إنها الجرأة نفسها عند ابن المقفع. لماذا نطق الحيوان في الأدب العربي؟ هذا سؤال مهمّ. تحدّث الحيوان في الأدب العربي بكلامٍ، اتّفق الناس على نسيانه. وفق الفكرة نفسها، يظهر الفيلم نباتاً أو ذاكرة تتحدّث، لأنّ الأحياء اتّفقوا على نسيانها.
(*) ثمّ المشهد الأخير، وفيه تتحوّل المدينة بأسرها إلى حقل ذكريات تناجي بعضها البعض. لعلّ في ذلك إحالة إلى الديمقراطية وجوهرها المتمثّل في الاستماع إلى الآخر، مهما كان مختلفاً، وأخذ رأيه في الحسبان.
أشكرك على هذه القراءة.
