
بيّنت محادثات واشنطن المفترضة كم أنّ الحرب الكارثة لم تكن نكسةً في مشروع الثورة السودانية والتقدّم فقط، بل أيضاً نهشت عميقاً في جوهر الشعب الصبور. رغم عدم التئام جراح الحرب، كشفت المحادثات كيف فقدت النُّخب السودانية الحدّ الأدنى من الثبات والتماسك، ولو إلى أجل قريب، ونفاذ الرؤى ولو إلى مدى قصير، فقبل أوان المحادثات، عبّأت فِرق المنشغلين بالسلام صدورَهم بالتفاؤل. حين لم تُعقد المحادثات، امتطى أنصار الخراب صهوةَ الابتهاج. راهن المتفائلون على الخلاص، بينما رأى المبتهجون في انفراط المحادثات انتصاراً. ذلك كلّه، وجميعهم جلوس في شرفة الفرجة، تاركين الوطن وما فيه رقعةً تتقاطع عليها مصالحُ الآخرين. كأنّما لم تستوعب هذه النُّخب أن غفلة الساسة كانت جمرةَ الحرب، ألهبت خيانةَ تحالف "العسكر والحرامية"، كما أشعلت نهمَ عصابات الفساد.
يقتصر كتاب التاريخ على القادة العظماء، ويخلّد محرّكي التاريخ، ولا يحفل بمَن لا يتحرّر من الشهوات الدنيا
بفعل تلك الغفلةِ السياسية ارتبكت المرحلةُ الانتقالية (منذ غداة الثورة) بارتباك معسكر الثورة، حتى أضحت السذاجة واقعيةً تهيمن على المعسكر برمّته. هي الغفلة نفسُها عميت عمّا كان يُعدّه أنصار الخراب وراء الكواليس للانقضاض على الثورة، ولو بلغت حرباً شاملة. سلسة من نوبات العنف المرسومة حدثت لاختبار اليقظة أحياناً، ومن منطلق التحدّي مرّات. من ذلك محاولة اغتيال رئيس الوزراء، افتعال أعمال شغب وحرائق إبّان تظاهرات احتجاجية. تلك كانت "بروفات" لعمليات حرب الخراب الشامل. فالحرب الكارثة لم تكن حدثاً مباغتاً، كما يحاول بعضهم تسويقها. لذلك لم تفرز قوى التدمير بين الأهداف العسكرية والمدنية، كما لم تستثن عاصفة النار الأحياء الجديدة والقديمة من جبهات الاقتتال. متى ما خرجت الخرطوم من تحت رمادها، ستظلّ تردّد معاناة الخراب، "حتوتة" خرافية أغرب ما تكون عن المخيال السوداني.
الكاتب الروسي فاسيلي غروسمان، مؤلف "من أجل قضية عادلة"، عمل مراسلاً صحافياً في الجبهة عند الغزو الألماني صيف 1941 حين حدث ما توقّعه الجميع باستثناء ستالين، فتلقى الجيش السوفييتي هزيمةً تلو أخرى، وعرض في روايته "الشعب الخالد" بطولاتِ الجيش الأحمر في مقاومة الغزو الفاشي، لكنّ الكاتب نفسه أمسى شاهدَ إثباتٍ على تحويل ستالين الثورة وحشاً لا يقلّ شراسةً عن نازية هتلر. شراسة وتوحّش بينهما معسكراتُ الإبادة وممارسات القتل الجماعي. الحرب الكارثة في السودان تقودها زمرةٌ مشحونة بوحشية لا تقلّ عمّا لدى ستالين، وبفاشيةٍ ليست أدنى ممّا عند هتلر. في أتون جنونهم يقاسي السودانيون التوحّش في أرذل صنوفه من التقتيل والتدمير والتجويع والتشريد، إلى الإبادة الجماعية. مع ذلك، يوجد من يراهن على الخلاص عبر التوغّل في الدم والرماد.
من أبرز مميّزات القيادة المحرّكة للتاريخ امتلاك مشروع استراتيجي لإنجاز أهداف عظيمةٍ
صحيحٌ أن القائد هو إحدى ماكينات القوى المحرّكة للتاريخ، لكنّ شغلَ المناصب لا يصنع قيادات. للقائد (مدنياً أو عسكرياً) صفاتٌ أبرزها ثراء الشخصية وعمق الرؤى، والشجاعة شرطٌ ضروري لكنّها لا تقتصر على البعد العسكري، بل التحلّي بالحكمة تحت الضغوط الفجائية على نحو يؤهّل القائد لمواجهة المحن الكبرى ببراعة. كما من أبرز مميّزات القيادة المحرّكة للتاريخ امتلاك مشروع استراتيجي يتضمّن إنجاز أهداف عظيمةٍ على صعيد الاقتصاد والسياسة والاجتماع. البنى الفوقية ليست أدنى أهميةً من البنى التحتية في مشاريع القيادات الوطنية، ولا معنى لأيّ مشروع استراتيجي لا يترجم الأقوال أفعالاً. لا شجاعة لقائد يهرب من المواجهة عند المآزق، ولا حكمة لقائد لا يملك القوة على المراجعة والتراجع حينما يقتضي الصالح العام.
يقتصر كتاب التاريخ على القادة العظماء، لكنّه لا يحفل بأنصاف القادة. هو يخلّد محرّكي التاريخ ولا يحفل بمَن لا يتحرّر من الشهوات الدنيا. التاريخ تجاوز حكمةَ ميكيافيلي: "إذا كان الخيار للأمير بين أن يكون مخيفاً أو محبوباً فالأفضلُ أن يكون مخيفاً". تلك مقولةٌ لم تعد تلهم الإنسانيةَ أو التاريخ، فلا يحفل كلاهما بالقيادات الجبانة المتردّدة المنغمسة في الشهوات. الشعوبُ قبل التاريخ لا تمنح شرعيةً لهذ الطراز من القادة. ثمّة قادة كتبوا تاريخهم بأعمالهم مثل الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر. هناك من كتب تاريخه بإنجازاته العسكرية، وهناك قادة كتبوا تاريخاً بأفكارهم مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ. ثمّة ساسة خلّدهم التاريخ تقديراً لمواقفهم السياسية مثل نيلسون مانديلا. قلّةٌ يذكرهم التاريخ من باب التشنيع إذ أحرقوا مدنهم مثل نيرون.
تدميرُ البنى العامّة والخاصّة للشعوب، وتهشيمُ مؤسّسات الدولة، وتجزئة الوطن وتشريد الشعب، وتعطيل دولاب المجتمع، ونشر الجوع والأوبئة... ليست من أعمال صانعي التاريخ. الرهان على كسب احترام إرادة الشعب ومصالحه العليا أكثر الدروب أماناً لشغل مكانةً مرموقةً في كتاب التاريخ.
