عن حرّية التعبير في العراق
عربي
منذ 16 ساعة
مشاركة

في الذاكرة مقولة للشاعر السوري محمّد الماغوط مفادها بأن للمواطن العربي الحقّ في ممارسة حرية التعبير، فيما للحاكم العربي الحقّ في حجبها عنه متى شاء. أكثر من ذلك، للحاكم الحقّ في سلب الحياة من مواطنه إذا أراد... تحيلنا هذه المقولة الساخرة إلى ما يجري في العراق من ممارسات في ظلّ العملية "الديمقراطية"، التي أسّسها الأميركيون، وحظيت بمباركة دولة "ولاية الفقيه"، ووصفها أحد عرّابيها الكبار بأنها تجربة فريدة، وأن دولاً كثيرة تريد استلهامها، والتعلّم منها.
جديد هذه التجربة سعي حكّام بغداد إلى تكريس حالة قمع حرية التعبير في نصّ تشريعي محالٍ إلى البرلمان، يخالف كلّ ما توافقت عليه شرائع الأرض والسماء التي عُنيت بحقوق الإنسان، وضمنت له حريته، وأمّنت كرامته، وهو أيضاً يخالف الدستور الهجين الذي شرعنته سلطة الاحتلال، قبل أزيد من 20 عاماً، وينصّ على ضمان حرّية التعبير من دون قيود.

يسعى حكّام بغداد إلى تكريس حالة قمع حرية التعبير في نصّ تشريعي محالٍ إلى البرلمان

وما تسرّب من مسوّدة التشريع المقترح نصوصٌ تبيح للحاكم (تحت غطاء حماية النظام العام) ملاحقة ومعاقبة كلّ من يحاول "الإساءة إلى الرموز" أو "الإخلال بالآداب"، وهي عبارات فضفاضة ومطلقة تعطي الحاكم تفويضاً في أن يعتبر أيَّ "فاشنيستا" مشهورة، تصول وتجول في الفضاء الواقعي، أو "بلوغر" معلومة تظهر صباح مساء في الفضاء الإلكتروني، رمزاً وطنياً لا يحقّ لأيّ كان توجيه النقد إليه، ويمنحه سلطة محاسبة كلّ من يتصدّى لفضح "حيتان" الفساد، أو المليشيات السوداء، لعمله على "تقويض النظام العام" أو "الإخلال بالآداب"، وقد تصل العقوبة في بعض الحالات إلى السجن عشر سنوات.
وما يضاعف من قوة السمّ التي يحملها هذا التشريع أن هناك سعياً حثيثاً إلى إقراره قبل أن تنتهي الدورة البرلمانية، مع أن مسودّته النهائية لم تُعرَض على المعنيين، كما لم تكن متاحةً، حتى لكثير من أعضاء البرلمان، الذين يُفترَض أن يطّلعوا عليها قبل فترة مناسبة من عرضها للتصويت، ممّا يعني أن هناك نيات مبيّتةً وراء محاولة "سلق" القانون، وإنهاء إجراءات إقراره بسرعة. ويراد من ذلك (على ما يبدو) نقل العراقيين إلى مرحلة أشدّ قتامةً وظلاماً ممّا هم عليه الآن، إذ هو لن يكتفي (إذا ما أقرّ) بحجب حرية التعبير، إنما سيدفع للقضاء على حرية التفكير أيضاً، بالعودة إلى وسائل قمع اختُبرت، من بينها الاغتيال والاختطاف والتغييب.
وما حملته وقائع الشهر الماضي (يوليو/ تموز) من ممارسات تكشف الطريقة التي تدار بها أمور مهمة كالتي يتصدّى لها التشريع الجديد، والشواهد على ذلك كثيرة، أكثر من الهمّ على القلب، ولا بأس من الإشارة إلى بعضها هنا: إغلاق قناة "البغدادية" الفضائية لدورها في فضح ملفّات الفساد، وانتهاكات المليشيات حريات المواطنين وأمنهم، وهو ما اعتبرته السلطة "محتوى تحريضياً، ومخالفاً للضوابط"، وإقدام مليشيا الحشد على اعتقال محامية معروفة على خلفية ما طرحته في مقابلة تلفزيونية من ملاحظات ناقدة لتشريع إشكالي يتعلّق بحقوق النساء، وتسريب صورها الشخصية في مواقع التواصل في إجراء ينتهك قواعد الخصوصية على نحو صارخ، وغير أخلاقي.
وفي واقعة أخرى، حُكم على رئيس تحرير صحيفة يومية (سياسية) بالسجن إثر مشاركته في حراك نقابي ضدّ انتخاب نقيب الصحافيين الحالي، وتأشيره إلى ممارسات غير مهنية في النقابة، واللافت أنّ النقيب نفسه هو من وقف خلف الادّعاء على رئيس التحرير المذكور، ولعب دوراً في إدخاله السجن. وفي واقعة غيرها أُحيل إلى التحقيق مُعدُّ برنامجٍ حواريٍّ لطرحه وثيقةً تدين مسؤولاً كبيراً بالاستحواذ على منزل أحد رجال العهد السابق من دون وجه حقّ. وفي إقليم كردستان، اعتقل صحافي لنشره مقالات تندّد ببعض ممارسات سلطات الإقليم.

عرفت السنون العشرون العجاف الماضية، حوادث اغتيال كتّاب وصحافيين وناشطين، رفعوا أصواتهم في مواجهة ماكينة الفساد والقمع 

هذه الوقائع الشائنة كلّها حدثت في مدى قصير، ودعك من آلاف أمثالها، وربّما أسوأ منها، عرفها العراقيون في السنين العشرين العجاف الماضية، وبينها اغتيال كتّاب وصحافيين وناشطين، لا ذنب لهم سوى أنهم رفعوا أصواتهم في مواجهة ماكينة الفساد والقمع واللصوصية.
ما العمل إذن؟... يدعونا "تحالف الدفاع عن حرية التعبير"، الذي يرعاه المرصد العراقي لحقوق الإنسان، إلى ألّا نصمت في مواجهة ما تخطّط له التركيبة الحاكمة في بغداد، ويطالب بسحب التشريع، وعدم إقراره، كما يطالب بإطلاق حوار وطني يشارك فيه المعنيون من منظّمات مدنية وصحافيين وحقوقيين وأكاديميين وناشطين، لصياغة قانون جديد يحمي حرية التعبير وليس لقمعها، ووقف أشكال الملاحقة للأصوات المعارضة والناقدة، التي تمارس حقّها في التعبير عما تراه وما تؤمن به.
وإلى ذلك، ثمّة ما خلص إليه "التحالف" من أن الكلمة الحرّة هي آخر ما تبقّى لدى العراقيين، وعليهم ألّا يفرّطوا بها ولا يصمتوا عما يراد لهم.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية