
يبدو أنه يجب أن أغيّر اسم المقال، وربّما يمكن أن يبقى العنوان كما هو، لأن اسم الطفل "أمير"، فبعد بحث طويل، وتحرّيات مضنية في أنحاء هذا الخراب كلّه، في تلك البقعة البائسة المسمّاة غزّة، تبيَّن أن اسمه ليس كذلك، وأن "أمير" هو اسم اختاره له جندي أميركي سابق خدم في واحد من مراكز المساعدات المعروفة في منطقة رفح، في شارع الطينة، لأنه يرى أن الطفل لا يليق به إلا أن يكون أميراً في حياة كلّ من حوله. وربّما لاح في خاطره، وهو يرى ذلك الطفل البائس الباحث عن حفنة طحين والقليل من الأرزّ والعدس، صورة طفله الذي تركه وراءه، أو أطفال جيرانه وأحبّته، وهم بالطبع في حالٍ على النقيض تماماً من حال هذا الطفل، فهم على الأقلّ يحصلون على طعام شهيّ وساخن من دون مشقّة، ويحرص ذووهم على إرضائهم، وتوفير كلّ أسباب الرفاهية، ولو بدرجات متفاوتة، حتى يبدو كلُّ طفل بالفعل أميراً في بيت أهله. وكيف لا يكون كذلك، وقد رآه القلب قبل العين؟ فكلّنا (عرباً وأعاجمَ) نعرف عظيم قيمة الأبناء في حياة الآباء.
الطفل الذي سُمّي "أمير" كان يستحقّ أن يكون كذلك، لو أنه عاش وترعرع في بيت قرميدي، فيه أمان ودفء، وحتماً فيه وجبة بسيطة دافئة تسكت جوع أمعائه، تطهوها الأمّ (سناء) فوق الموقد. لكنّه لم يجد هذا كلّه، واستيقظ على كابوس مرعب، إذ عليه أن يسير مسافة 12 كيلومتراً حافيَ القدمين، بملابس مهترئة أصبحت أسمالاً واسعةً متدلّيةً فوق جسده النحيل، بسبب فقدانه السريع وزنه، بفعل الجوع الذي يعانيه. حتى إن عظام قفصه الصدري قد أصبحت بارزةً، وحوّلت ظهره قوساً منحنٍ لا يحتاج إلا لسهم قاتل يُطلق من خلاله، لو شُدّت عليه الحبال بين عيني هذا العالم الصامت المتخاذل والمتواطئ على حاله، وحال أمثاله من الأطفال الأبرياء، الذين يفعلون مثله كلّ يوم، ويقطعون المسافات الطويلة نحو محافل الموت، المسمّاة بـ"مراكز توزيع المساعدات" التابعة لمؤسّسة غزّة الإنسانية. لكنّها لا توزّع سبل الحياة من خلال الطعام، بقدر ما وزّعت أضعاف تلك المزاعم من الموت غير المُعلَن، الذي يُطلق على الضّعفاء المُجوَّعين مع سبق الإصرار والترصّد. ويحدث ذلك كلّ يوم، حتى أصبح الذاهب إلى تلك المصائد مفقوداً، لا أمل في عودته، وإن عاد، فبكوابيسه ودموعه وجراحه، إن لم يعد محمولاً على أكتاف رفاقه.
تصرّ الأم (سناء) على البحث عن طفلها عبد الرحيم الجرابعة، وتؤكّد أنها تريد أن تعرف مصير جثّته، لكي تكرّمها في قبر صغير، تكتب فوق شاهده: "هنا يرقد طفلي، الذي تمنّيت أن يحيا أميراً، ولكنه عاش قليلاً في سجن كبير اسمه غزّة."
أمّا الجندي المتقاعد، أنتوني أغيلار، الذي عاد إلى بلاده بعد أن رأى تلك الكارثة، فلا تزال صورة الطفل "أمير" عالقةً في مخيّلته. فقرّر أن ينقل تلك الحادثة إلى كلّ العالم، عن ذلك الطفل الصغير الجائع، الذي انحنى بهامته النحيفة الضّعيفة ليقبّل يده شاكراً له على القليل من الأرزّ والعدس، ويؤكّد أن الطفل كان لا يزال حيّاً، وقد استعدّ للمغادرة بما حصل عليه، ليُسعد قلب أمّه، ويُسكت صوت أمعاء إخوته الصغار، قبل أن يبدأ إطلاق النار العشوائي بلا سبب نحو النساء والأطفال والرضّع في المكان، ممّا يؤكّد أن "أمير" قد قُتل فعلاً، بفعل مصائد الموت التي أصبحت أكثر من حبّات الأرزّ التي حصل عليها.
إن مأساة "أمير" تذكّرك بمقولة الراحل غسّان كنفاني، حين وصف حال الفلسطيني، "الأمير" عبر تاريخه النضالي: "يسرقون رغيفك! ثمّ يعطونك منه كسرةً، ثمّ يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم!". واليوم في غزّة، وبعد هذا المسلسل، فإنّهم لا يكتفون بسرقة الرغيف، بل يقتلونك.
