
تتعالى أصوات مستاءة من مشهد جديد بات يتكرّر في قلب دمشق، حيث تحوّلت ساحات رئيسية، مثل ساحة المرجة، ساحة الأمويين، وباب مصلى، إلى ما يشبه المتنزهات المفتوحة.
هذه الساحات أخذ الناس يلجأون إليها هرباً من حر الصيف، حاملين معهم النراجيل وأكياس البزر، ومفارش يبسطونها على الأرض في ما يُشبه طقساً شعبياً جديداً "للسيران".
أثار هذا المشهد الذي أصبح مألوفاً في يوميات المدينة حفيظة دمشقيين كثيرين وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا ما يجري سلوكاً غير حضاري يُسيء لصورة دمشق وتاريخها الثقافي، مطالبين الجهات المعنية بالتدخل لضبط الظاهرة. لكن اللافت في هذا الخطاب الناقد أنه لا يخلو من نبرة مناطقية، إذ تُوجَّه أصابع الاتهام إلى من يُطلَق عليهم "القادمون الجدد" من المحافظات الأخرى، خصوصا بعد سقوط نظام الأسد، يُحمِّل الناقدون هؤلاء مسؤولية "تشويه المشهد العام"، بحجّة أنهم لا ينتمون إلى روح المدينة ولا يتقنون تقاليدها الراسخة.
لكن هذا السلوك الذي يبدو غريباً على الذاكرة الحضرية للمدينة، لا يمكن عزله عن تحولات أعمق عاشتها دمشق خلال العقود الأخيرة، ففي 2007، خلال مؤتمر التخطيط الإقليمي في أسبوع العلم الـ47، قُدّم تقرير ضخم بعنوان "سوريا 2025"، أعدّه 264 باحثاً، تناول مستقبل دمشق بتوقعات محزنة ومقلقة. أُشير في التقرير حينها إلى أن "دمشق تدق ناقوس الخطر... بل ناقوس الموت"، وأنّ المدينة التي بُنيت على ثلاثة أعمدة: بردى، الغوطة، والإرث المعماري، تفقد هذه الأعمدة واحداً تلو الآخر. فنهر بردى تحوّل إلى "أنبوب صرف صحي"، والغوطة التهمها "السرطان" بفعل التمدّد العمراني العشوائي، فيما تنحسر المساحات الخضراء وتختنق المدينة بفعل الهجرة الداخلية المكثفة التي جعلت، حسب تقديرات عام 2007، ثلاثة أرباع السكان يعيشون على ربع مساحة سورية. ولم يكن معدو التقرير حينها يتخيّلون أن حال دمشق في عام 2025 سيكون أسوأ مما تنبأوا به.
... قد يكون لأهالي دمشق حقٌّ في انتقاد ما آلت إليه مشاهد "السيرنة" في ساحات المدينة، إذ لطالما كانت للسيران الدمشقي أصوله وطقوسه الاجتماعية الخاصة التي تشكلت عبر الزمن كجزء من هوية المدينة وذاكرتها الجماعية، ففي كتاب "مذكّرات البارودي"، نجد وصفاً غنياً ومفصلاً لشغف الدمشقيين بشم الهوى والطرب.
يقول: "أهل الشام ميالون دائماً إلى اللهو والطرب بحسب طبيعة إقليمهم ووجودهم دوما بين الجنان والرياض الغناء التي تفتن المرء وتستهويه ولو كان زاهداً. المقاهي ذات الأنهار والأشجار التي تغص بالزبائن في الليل والنهار هي: مقهى باب السلام، المناخلية، الدلبة، والجنينة، الصفوانية، والإحدى عشرية، وباب توما". ويحكي البارودي عن طقس السيران: كلما سنحت لأحدهم فرصة يجمع لفيفاً من أصدقائه ويذهب بهم إلى شم الهواء على ضفاف النهر، أو في زاوية أحد البساتين فيقضون سحابة نهارهم بسرور وهناء، وهذا معدود من النزهات البسيطة، أما السيران فإنهم يعدّون عدّته ويعيّنون وقته ومحله من قبل، وإما أن يجمعوا نفقته من بعضهم ويعهدون بصرفها إلى أحدهم، وإما أن يتعهد كل منهم بسيران خاص يقيمه لحسابه، فيسيرون ويأخذون معهم جوقة طرب ويستحضرون أوائِل الغداء والعشاء، فيطبخها الطاهي الخاص أو من يعلم أصول الطبخ منهم".
ويفصل بطعام السيران: "غالباً ما يكون الطعام بحسب الموسم من الأرز بالفول والعصافيري، أو يوصون عليه (البغجاتي) فيرسله إليهم خالصاً في الوقت المطلوب، ويكون على الأكثر صفيحة أو خروفاً محشياً مع التمور، والشبان منهم ينفردون عن الكهول ويلعبون ألعاباً تتناسب مع سنّهم، وهكذا يدوم الحال إلى أن تنقضي سحابة النهار فيعودون بعراضة وضجيج".
كما يصف البارودي في مذكراته طقس "السماط"، وهو السيران الخاص بالنساء، موضحاً أنه كان يُقام في حدائق مستورة، تجتمع فيه النساء لسماع الغناء، ومشاهدة الرقص والمشاركة فيه، والتأرجح ولعب ألعاب خاصة، أو تبادل الأحاديث وتناول ما أعددنه من طعام، وقبيل الغروب، يعدن إلى منازلهن وقلوبهن طافحة بالسرور.
وفي كتابه مرآة الشام: تاريخ دمشق وأهلها، يفصّل المؤرخ عبد العزيز العظمة في استعداد الدمشقيين للسيران، حيث يروي أن "أهل دمشق كانوا يعدّون (للسيران) عدّته، ويستحضرون معهم الطعام، ويأخذون معهم جوقة طرب، ويلعبون ألعاباً تتناسب مع سنّهم، ويقضون أوقات انشراح، ويعودون نشيطين إلى أعمالهم… وكانت في دمشق جمعيات مهنية غايتها تنظيم التسلية والنزهات لأبناء الصنعة، وكان بعض أفرادها يركبون في السيران الرهوان والخيل والحمير".
واعتاد أهل دمشق، كما يوثق المؤرخ محمد عبد الجواد القاياتي في كتابه "نفحة البشام في رحلة الشام"، على قضاء نزهاتهم الربيعية على ضفاف الأنهر وفي المروج الخضراء، حيث كانت المناظر الطبيعية تُضفي بهجة ونضارة على هذه الطقوس الاجتماعية. ويصف القاياتي هذه الأجواء: من جملة مناظر دمشق الشائقة ومناظرها البديعة الرائقة ذات النضارة والبهجة، مناظر الأشجار والأنهار في المرجة، فما أنضر هذه البقعة وأحسنها في عين الرائي. كما وصف القاياتي في كتابه الذي نشر في مصر عام 1901 ميلادي أخلاق أهل الشام: أما أخلاق أهلها وطباعهم وعوائدهم وأوضاعهم فهي من أجمل ما يكون في أخلاق العالم.. يلاقون الشخص باللطافة والبشر والبشاشة.
وفي خضم التغيرات المتسارعة التي تعصف بسورية ودمشق، تبرز الحاجة الملحّة لاحترام العادات والتقاليد الاجتماعية التي تشكّل نبض المدينة وروحها. ... السيران الدمشقي، بطقوسه المنظمة وأصالته الاجتماعية، يذكرنا بأن الفرح والاحتفال لا يمكن فصلهما عن الاحترام المتبادل والانسجام الاجتماعي. لذلك يبقى احترام العادات والتقاليد الاجتماعية الدمشقية ضرورة تضمن الحفاظ على الروح الحقيقية للمدينة، وتفتح الباب لفهم أعمق بين أبنائها من جهة وزوارها من جهة أخرى، بعيداً عن الانقسامات والمواقف التي قد تسيء للسلم الأهلي الذي يبدو اليوم في أسوأ أحواله.
