
في خطوة تعبّر عن تحوّل كبير في أولويات البنية التحتية في أوروبا، حذّر مفوض النقل في الاتحاد الأوروبي، اليوناني أبوستولوس تزيتزيكوستاس، من أن الطرق والجسور والسكك الحديدية في أنحاء القارة غير مؤهلة لتحمّل متطلبات النقل العسكري الثقيل، مثل الدبابات والمركبات القتالية، في حال اندلاع حرب مع روسيا. وتأتي هذه التصريحات في ظل تصاعد التوترات الأمنية في القارة، واستجابة مباشرة لما يعتبره الاتحاد الأوروبي ضرورة استراتيجية لتعزيز "قابلية التنقل العسكري" عبر الدول الأعضاء، بما يشمل الدعم اللوجستي الفوري في حال نشوب نزاع مسلّح في شرق أوروبا أو البلطيق.
وأعلن تزيتزيكوستاس في مقابلة مع صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، نشرت اليوم الثلاثاء، عن إطلاق خطة تحديث واسعة للبنية التحتية بقيمة 17 مليار يورو لرفع جاهزية الطرق والجسور لمتطلبات حركة القوات والمعدات العسكرية الثقيلة، وأضاف: "لدينا جسور قديمة بحاجة إلى تحديث، وأخرى ضيقة يجب توسيعها، وأماكن لا توجد بها جسور إطلاقاً، ما يتطلب بناءها من الصفر". هذا الاستثمار العسكري لن يصبح حكراً على الدفاع فحسب، بل سيمد شبكة النقل المدني ببنية تحتية محسنة تحمّل أوزاناً أكبر، ومن المتوقع أن يستفيد قطاع البناء، وصيانة السكك، والتقنيات الذكية للنقل من عقود طويلة الأجل. في الواقع، اقترحت ميزانية الاتحاد المقبلة أن يزيد التمويل للنقل بمعدل عشرة أضعاف مقارنة بالأطر المالية السابقة، مع حصة بطول عقد تصل إلى 17.65 مليار يورو لخيار "الانتقال العسكري" ضمن صندوق Connecting Europe Facility.
تعاون وثيق مع الناتو
حدّدت المفوضية الأوروبية نحو 500 مشروع بنية تحتية ذات أولوية عسكرية، موزعة على أربعة ممرات نقل رئيسية في القارة، بالتعاون مع حلف شمال الأطلسي (ناتو)، لضمان القدرة على الانتقال السريع للقوات عبر الحدود دون عراقيل. وأكد المفوض أن أحد التحديات الحاسمة ليس فيزيائياً فحسب، بل هو إداريّ أيضاً؛ "فعلينا ضمان ألّا تتعطل حركة الدبابات في المعابر الحدودية بسبب الروتين أو البيروقراطية". ينضوي هذا الجهد في سياق خطة العمل على التنقل العسكري ، ضمن مبادرة الهيكل الدائم للتعاون الدفاعي (PESCO)، التي أُقرّت عام 2024. وتنص قانونياً على ضرورة تضمين متطلبات التنقل العسكري ضمن شبكة " TEN‑T (شبكة النقل الأوروبية)، بحيث تخدم البنية الطرقية والسككية أغراضاً مدنية وعسكرية معاً.
يأتي هذا التحوّل في إطار استراتيجية أوروبية أوسع لإعادة التسلّح وتعزيز الردع، وسط ما يعتقدون أنه تهديدات متزايدة من روسيا وتوسيع عضوية الناتو، كما يتماشى مع الخطط الألمانية والهولندية والفرنسية لإعادة هيكلة جيوشها لتكون أكثر مرونة وانتشاراً. وبحسب تقارير اقتصادية، فإن الاستثمار في "البنية التحتية العسكرية مزدوجة الاستخدام" (المدني والعسكري) قد يخلق أيضاً فرصاً للشركات العاملة في قطاع البناء، وتكنولوجيا النقل، والذكاء الصناعي المرتبط باللوجستيات، ما يربط الأمن القومي بمكاسب اقتصادية محتملة. هذا الاتجاه نحو عسكرة البنية التحتية يطرح تساؤلات جوهرية حول التوازن بين الاستثمار في الحرب والتنمية الاقتصادية المستدامة. ففي حين ترى المفوضية أن الأمن شرط أساسي للاستثمار والنمو، يرى مراقبون أن أولويات مثل التحول الأخضر أو رقمنة الاقتصاد قد تتراجع لصالح المشاريع ذات الطابع العسكري.
تأثير مباشر على قطاع النقل الأوروبي
من المتوقع أن يُحدث هذا الاستثمار العسكري تحوّلاً نوعياً في قطاع النقل الأوروبي، إذ سيدفع نحو تحديث شامل للشبكات البرية والسككية والجسور، بما يتجاوز الاستخدام العسكري إلى تعزيز الكفاءة اللوجستية المدنية أيضاً. فالشركات العاملة في مجالات الهندسة المدنية، وصيانة السكك الحديدية، وتكنولوجيا البنية التحتية الذكية، ستستفيد من العقود العامة طويلة الأجل التي تنفّذ ضمن هذه الخطة. وقد يؤدي تحسين قدرة الطرق والجسور على تحمّل أوزان ثقيلة إلى تطوير أنظمة النقل الصناعي والتجاري، بما فيها حركة الشحن بين الدول الأوروبية.
كما يُتوقّع أن تنمو الاستثمارات في القطارات السريعة وأنظمة الملاحة المتقدمة، التي يمكن استخدامها لغايات عسكرية ومدنية على حد سواء. وهذا ما قد يُعزّز التكامل بين شبكات النقل الوطنية ويُسرّع في تنفيذ "السوق الأوروبية الموحدة للوجستيات". في المقابل، عبّر بعض الخبراء في مجال البنية التحتية عن قلقهم من أن الأولوية العسكرية قد تُزاحم مشاريع النقل العام المستدام، خاصة تلك الموجهة نحو تحقيق أهداف المناخ وخفض الانبعاثات بحلول 2030، ويؤكّد محللون أن نجاح الخطة يتوقف على تحقيق توازن ذكي بين الأغراض الدفاعية والتجارية، لضمان ألّا يؤدي "اقتصاد الحرب" إلى تهميش مصالح الركاب والمستهلكين العاديين.
