
لا يبدو الانسحاب الأميركي من مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، والسماح بدخول الفتات من المساعدات الإنسانية، وتصريحات الرئيس دونالد ترامب عن استنكاره "التخلي الإسرائيلي الخاطئ عن قطاع غزة من البداية"، وأنه قال لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "أن يفعل ما يراه مناسباً في القطاع"، وتصريحات السيناتور ليندسي غراهام أحد صقور الحروب في واشنطن، أمس بأن "إسرائيل ستفعل في القطاع مثلما فعلت الولايات المتحدة في طوكيو وبرلين في الحرب العالمية الثانية"، مجرد كلمات عابرة، إذ تمثل حالة مشابهة للإجراءات التي جرت قبل الأيام الأخيرة للهجمات الأميركية على إيران، فهل تمهّد هذه الإجراءات لبدء احتلال إسرائيل لقطاع غزة بعد ما يقارب عامين من القتل والتدمير الكامل للقطاع؟
وقبل الضربات الأميركية العسكرية على إيران، طلب ترامب استسلاماً غير مشروط من طهران، كانت هذه الجملة هي المفتاح، لرغبة إدارة ترامب في استعادة ما يُطلق عليه "السلام من خلال القوة". فقبل أيام من هذه الهجمات وجه السفير الأميركي لدي إسرائيل مايك هاكابي رسالة إلى ترامب دعاه إلى أن يستمع إلى صوت السماء، واستحضر تجربة الرئيس هاري ترومان في تلميح إلى القرار الأميركي التاريخي آنذاك باستخدام السلاح النووي ضدّ اليابان، وهو نفس التلميح الذي أشار إليه السيناتور الأميركي ليندسي غراهام المقرب من ترامب، والذي ادعى أنه كان له دور في إقناع ترامب بضرب المواقع النووية في إيران في يونيو/حزيران الفائت.
ولدى السياسيين الجمهوريين الأميركيين هوس بنتائج الحرب العالمية الثانية، عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلتَين نوويتَين على مدينتَي هيروشيما وناغازاكي، ما أدى ليس لاستسلام اليابان فحسب وإنما "الخضوع التام" وإنهاء الحرب العالمية الثانية. كانت وفاة آلاف المدنيين في اليابان هي حجر الأساس في تثبيت الولايات المتحدة قدميها عالمياً إمبراطوريةً تتمدّد ببطء من أجل قيادة العالم. اليوم، وبينما تعاني الولايات المتحدة في ظل صعود هادئ للصين ومحاولات روسية للخروج من القمقم، يحرض عشرات الجمهوريين ترامب على فعل الأمر نفسه على أمل أن تتكرر النتيجة ذاتها بعد أن خاضت الولايات المتحدة حربين استمرتا عشرين عاماً ولم تكن نتائجهما على مستوى "إعادة الخضوع الكامل عالمياً"، لكن هذه المرة الهدف "غزة".
خرجت الولايات المتحدة من غزو العراق وأفغانستان، خالية الوفاض، فقد أنفقت ما يقارب 6 تريليونات دولار حسب التقديرات الأميركية، ولم تكن النتائج على المستوى الذي يؤدي لمزيد من الهيمنة العالمية، المتحققة بالفعل آنذاك، فغادرت أفغانستان في فترة الرئيس السابق جو بايدن بعد 20 عاماً من القتال، والبشر يتساقطون من الطائرات التي تحاول إنقاذ المتعاونين الأفغان، وتركت خلفها أسلحة ومعدات متقدمة استولت عليها حركة طالبان التي عادت للحكم (خاضت أميركا حربها هناك من أجل القضاء عليها)، أما حرب العراق فتسبب في شرق أوسط أكثر انقساماً وظهور تنظيم "داعش".
لا أحد يعرف ما يدور في عقل ترامب، لكن دلالات تصريحاته تشير إلى ما يُدبر بليل من أجل غزة، وتبدو هذه التصريحات حتّى هذه اللحظة مماثلة لما جرى خلال الأشهر القليلة الماضية قبل ضرب إيران، كانت الضربة قوية للغاية بحيث ترضي غرور ترامب، وفي الوقت ذاته لا تسمح باشتعال حرب كبرى تخرج من خلالها الأمور عن السيطرة، أما في حالة غزة فسكانها بلا قوة تقريباً كما أن تجربة تجويعهم وقصفهم من إسرائيل وحصارهم وإبادتهم تجري بهدوء على مدار عامين كاملين وبمهادنة عالمية، فلا أحد يقدر على مواجهة الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل بالمال والسلاح والدبلوماسية والتصريحات والحماية حتّى لو كان ذلك على حساب جسد "حقوق الإنسان والمبادئ الإنسانية والشرعية والقوانين الدولية والأمم المتحدة".
على مدار أشهر من المفاوضات لوقف إطلاق النار، بدا واضحاً أن الولايات المتحدة لا تريد "وقفاً كاملاً لإطلاق النار"، وأن الغاية الأولى لوقف "إطلاق النار المؤقت" هو إخراج المحتجزين الإسرائيليين في غزة دون أي اعتبار لعدد الفلسطينيين الذين يموتون يومياً. دعمت الولايات المتحدة إسرائيل في عدوانها على المدنيين، ودافعت عنها دائماً في مجلس الأمن. ودمرت إسرائيل المستشفيات والمدارس والجامعات وقتلت الصحافيين والأطباء والمدنيين والنساء والأطفال، وارتكبت جرائم لم تُرتكب منذ الهولوكوست باعتراف مسؤولين أميركيين سابقين ويهود وقيادات ومؤسسات دولية، غير أن موقف الولايات المتحدة ظل ثابتاً وهو السماح لاسرائيل بأن تفعل ما يحلو لها، وهو ما عبر عنه الرئيس الأميركي ترامب الذي يزعم أنه زعيم السلام عالمياً والمتعطش لجائزة نوبل للسلام.
سمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بنقض اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/ آزار الماضي، ثم منع دخول الطعام والدواء، وفي الوقت ذاته كانت تجري عسكرة المساعدات الإنسانية من خلال تأسيس المؤسّسة التي يطلق عليها "مؤسّسة غزة الإنسانية" ذراعاً لشركات مقاولين أمنيين بدعم أميركي إسرائيلي للتحكم في حياة الفلسطينيين والغذاء. كانت الحجة الأميركية الإسرائيلية المزعومة أن حركة حماس تسرق المساعدات الإنسانية، لكن ثبت من خلال تقارير حكومية أميركية وإسرائيلية عدم وجود أي أدلة على هذه المزاعم، في الوقت الذي تدافع فيه الولايات المتحدة عن المؤسّسة وتهاجم مؤسّسات ومنظمات أممية متخصّصة في تقديم المساعدات الإنسانية.
أحد أبرز هؤلاء الجمهوريين الذين يمكن مراقبة تصريحاتهم، والذي يحظي بثقة ترامب في ما يخص السياسات الخارجية رغم علاقتهما المضطربة على مدار السنوات، هو ليندسي غراهام، السيناتور الجمهوري المخضرم في الدعوة للحروب والتأييد المطلق للجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، إذ كانت تغريداته على مدار الأشهر القليلة دليلاً على بوصلة ترامب في السياسات الخارجية. فبينما كانت الولايات المتحدة تتفاوض مع إيران بخصوص برنامجها النووي، سمحت لإسرائيل -طبقاً لاعترافات ترامب نفسه- بالهجوم عليها وسط التفاوض. كان غراهام واحداً من أهم الداعمين لهجوم أميركي في هذه الأثناء على إيران، والداعمين لخطوات ترامب قبل أن يشير لاحقاً إلى معرفته باتجاهات الإدارة، فقد كانت كتاباته في يونيو/ حزيران الماضي تحمل دلالات كبيرة على الخطط الأميركية لـ"إنهاء المهمة في إيران" كما كتب هو بنفسه على صفحته.
كشف غراهام، في مقابلة عقب الهجمات الأميركية على إيران، أنه كان سبباً من أسباب الضربة الأميركية على المواقع النووية الإيرانية، وأنه نجح في إقناع الرئيس ترامب، إذ قال "أحد الأمور التي كان يفكر فيها (ترامب) وتحدثت معه عنها، أنه إذا فعلت ذلك (الهجوم على إيران) فستصلح الضرر (على سمعة الولايات المتحدة عالمياً) الذي سببه انسحاب جو بايدن من أفغانستان... قامت إسرائيل بعمل رائع (الهجوم على إيران) لكن كنّا بحاجة إلى أن تكون لنا بصماتنا أيضاً، من مصلحة الأمن القومي أن نكون جزءاً من هذا".
دعا غراهام على مدار العامين الماضيين إلى تدمير غزة، ففي مايو/ آيار 2024 حرض في تصريحات له لشبكة إن بي سي الأميركية على قيام إسرائيل بضرب غزة من خلال قنبلة نووية، إذ زعم أنّ هناك مبرراً لها بتسوية القطاع بالأرض باستخدام سلاح نووي، مثلما فعلت الولايات المتحدة في هيروشيما وناغازاكي في الأربعينيات، ووصف القرار الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية بأنه كان "القرار الصحيح" من الولايات المتحدة، وقال "أعطوا لإسرائيل القنابل التي تحتاجها لإنهاء الحرب، فهي لا تستطيع تحمل خسارتها، واعملوا معها على تقليل الخسائر البشرية"، وهاجم المعارضين لفكرته قائلاً "لماذا من المقبول أن تسقط أميركا قنبلتَين نوييتَين لإنهاء حرب التهديد الوجودي. لماذا كان من المقبول لنا أن نفعل ذلك... اعتقد أنه كان جيداً".
هذه الأيام، أعاد غراهام طرح رؤيته بطريقة أخرى، لكن هذه المرة متنبئاً بما ستفعله إسرائيل، لكن هذه التصريحات تأتي بالتزامن مع تصريحات متناقضة للرئيس ترامب تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال وتشير إلى معاناة الفلسطينيين من مجاعة في غزة، وتعهده بمزيد من المساعدات الإنسانية (تجري عبر مؤسّسة غزة الإنسانية التي تدور حولها الشبهات)، وفي الوقت ذاته إلى إعلانه السماح لنتنياهو بفعل ما يحلو له في غزة، إذ ذكر غراهام في مقابلة أمس مع "إن بي سي نيوز"، أنه يعتقد أن إسرائيل ستفعل في القطاع مثلما فعلت الولايات المتحدة في طوكيو وبرلين في الحرب العالمية الثانية، وقال غراهام "لا توجد وسيلة آمنة أمام إسرائيل للتفاوض على إنهاء الحرب مع حماس. إسرائيل ستتولى السيطرة على غزة. سيفعلون ما فعلناه في طوكيو وبرلين. الاستيلاء على المكان بالقوة والبدء من جديد وتقديم مستقبل أفضل للفلسطينين"، وأكمل قائلاً "أعتقد أن الرئيس ترامب توصل إلى هذا الاستنتاج، وبالتأكيد لا توجد طريقة يمكنك بها التفاوض على نهاية الحرب مع حماس".
بناء على تاريخ غراهام، لا يبدو أبداً أنه يذكر ذلك دون معلومة لديه سواء من إدارة ترامب أو إسرائيل أو استشارة أو رأي قدمه هو على سبيل النصيحة. يتوافق هذا التصريح مع الانسحاب الأميركي المفاجئ من المفاوضات لوقف إطلاق النار مع رفض إيقاف الحرب كلياً، وضرورة الإفراج عن المحتجزين في غزة، فضلاً عن تصريحات ترامب التي قال فيها "حماس تعرف ما سيحدث لها عقب الإفراج عن الرهائن لذا لا تريد وقف إطلاق النار"، وتصريحاته الأخرى بأنه "ترك القطاع من البداية كان خطأ"، ثم الحديث عن عن فتات "المساعدات"، ما يدفع إلى تساؤلات مفادها "هل يجري إلقاء القنابل والطعام في الوقت ذاته"، و"ما الذي يجري تدبيره لغزة".
اختبرت الولايات المتحدة على مدار الأشهر الماضية "فائض قوتها العسكرية" في إيران ونجحت التجربة نجاحاً ساحقاً، طبقاً للمعطيات الأميركية. اليوم يبدو أن واشنطن التي تقود مفاوضات منحازة فيها إلى إسرائيل حليفتها التي تتولى هي حمايتها ودعمها وتمثل ذراعها في المنطقة قد انتهت إلى اتخاذ قرار في غزة، يشابه ما حدث في الحرب العالمية الثانية لمزيد من فرض القوة والخضوع عالمياً، وهي الرؤية التي يسعى ترامب لفرضها عالمياً منذ وصوله وهي "الإخضاع التام إمّا بالقوة أو بالإذعان أو بالاقتصاد".
