المآزق الأخلاقية ما بعد الثورة السورية
عربي
منذ 4 ساعات
مشاركة

ثمة حالة شبه عامة من الخيبة العميقة تلف أوساط بعض من شاركوا في الثورة السورية التي انطلقت عام 2011. ومرد الخيبة هو سلوك شركائهم الذين باتوا أغلبية في العدد وفي الموقع القريب من السلطة الجديدة. يبدو أن الموقع الشخصي، وفق الهويات التي سيطرت فجأة بعد سقوط نظام بشار الأسد، قد قلب معايير المواقف من القتل والانتهاكات ضد فئات محددة من الشعب السوري. فعلياً، لقد تغير الموقف من الضحايا ومن المنتهكين استناداً إلى زاوية واحدة من الرؤية، لكنها زاوية مطلقة ومعممة، هي الطائفة.

كما يبدو واضحاً شعور جمهور الضحايا وذويهم، ممن ثاروا ضد النظام القمعي المجرم في سورية، بخيبة عميقة. غير أن خيبة الضحايا تلبس وجه الأسى العاطفي والعتب الشجي، مع غصات كامنة في الصدور. واللافت أن حالة الضعف التي شعر بها الضحايا تحولت، في أوقات كثيرة، إلى حالات من الشعور بالعجز، والعزلة، والتخلّي الشديد. وربما أكثر ما يؤلم في هذه الحالات هو كونها جماعية، مناطقية، لدرجة أن الضحايا يبالغون في شكر أي متعاطف خارج دائرتهم القريبة، أو بالحقيقة، خارج طائفتهم، لأن هذا التعاطف يُعتبر خطوة متقدمة جداً عن السائد، ويُعد سبباً لوصم المتعاطف أو تجريمه؛ ليس من المنتهكين فحسب، بل من جمهورهم الواسع واليقظ جداً، الذي تحول إلى "كاتم على الأنفاس"، يراقب كل كلمة تُكتَب ويفكك كل عبارة تُنطَق، حتى لو جاءت من باب التعاطف الهش أو العفوي.

هل يمكن تحليل أسباب هذا الشرخ العميق الحاصل في جسد الثورة وجمهورها؟ والأهم: هل يمكن اتهام الجميع والتنصل من الشراكة الثورية العتيدة والطويلة معهم؟ أم أن الدم النازف لا ينتظر من يلعن مريقه؟ فالقضية هنا ليست فقط رفض إراقة الدماء أو القبول بها كمحصلة طبيعية للعدالة المترقبة لحظة النصر، بل هي التراخي في عدم طي هذه الصفحة، وعدم التلويح والإشارة إلى خطرها المطلق على المستقبل المشترك لشركاء الثورة، وعلى الأغلبية التي اختارت الصمت، سابقاً ولاحقاً، والتي أصبح بعض أفرادها اليوم في فئة الضحايا. فكيف سيتدرب هؤلاء على الشكوى وهم غرقى في خانة الضعف المطلق، خاصة أن انتماءهم الطوعي أو المولود معهم إلى هويات قاتلة وبيئات قاتلة أيضاً، يجعلهم عرضة للخذلان حتى في الألم؟

تغير الموقف من الضحايا ومن المنتهكين استناداً إلى زاوية واحدة من الرؤية، لكنها زاوية مطلقة ومعممة، هي الطائفة

وصل الاستنكار ببعض المدافعين عن حقوق الجميع بالإنصاف، وبالعدالة، وبالحق في الحماية، والمطالبين بطي صفحة الانتقامات على الهوية، إلى إعلان كرههم لأنفسهم ولانتمائهم العائلي وربما المديني أيضاً. فقد صرّح محام يملك من الخبرة القانونية الكثير، بأن اللافت في أحوال جماهير المطبلين أو المؤيدين بصورة قطعية، دونما رفض أو تمييز للانتهاكات الجسيمة الحاصلة، هو أنهم يعانون من فصام غريب؛ فإذا طالب أحد ما أو مجموعة ما بتعديل مادة قانونية محددة، ثاروا عليه، ونعتوه بالخيانة العظمى، ووجهوا له تهمة محاولة قلب النظام الجديد أو الانقلاب عليه. أما إذا ما استجابت السلطة لنفس الطلب، فإنهم يعظمونها، ويعتبرون ما قامت به انزياحاً كاملاً نحو ما يُطلب شعبياً، ونحو الديمقراطية ومصلحة الجميع.

يحاول بعض جمهور الثورة الإمساك بالعصا من المنتصف، حفاظاً على ماء الوجه، أو حفاظاً على العِشرة والشراكة الثورية الطويلة. ينتفضون بحذر، وبكلمات عاطفية مواربة، رغم يقينهم أن هذا لا يكفي، فدم الضحايا يميز جيداً طبيعة المواقف ويحفظ وجوه أصحابها.

إن الشرخ العميق الحاصل في سورية اليوم، ما بين الانتصار للضحايا بغض النظر عن طوائفهم، والوقوف على المسافة نفسها من الجميع، ضحيةً أو منتهِكاً، كل بحسب دوره، هو شرخ يزداد عمقاً وحدةً. ولا يهدد العيش المشترك بين السوريين فحسب، بل يمهد فعلياً للوصول نحو حالة "الأخوة الأعداء" في قطيعة مطلقة، قد لا يصلحها أي وفاق مستقبلي أو حتى اتفاق مرحلي وآني، في أحسن الأحوال.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية