زياد الرحباني في أرض المستحيل.. فسحة المسرح من أجل الموسيقى
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

حين نهى عاصي الرحباني ولده عن الدخول في القوافل الشاردة في حزب الكتائب اللبناني، لم ينهه إلا عن قطاف العشب اليابس. لم يقل الوالد إن الدخول في حمى الحزب حدف بعيد من الملائكة. نهاه بالفزع من السيرة الريفية. سيرة حمالة ملح الدمع من نأيها عن شمس المدينة. لأن في المدينة وحدها نزق الرقص في الثقافة من أعوام بعيدة، ابتعدت من نفسها حين هاجمها الحزب بريفية مقاتليه. لا يزال الحزب حتى اللحظة واحدة من لوحات المدينة الهوجاء من اقتصاصه الدائم منها وهو في مجال تشكيكه فيها. حزب ريفي. الريف منطقة جغرافية بمساحات واسعة من الأراضي الزراعية والقرى. خلافها مع المدن ليس على قلة كثافتها السكانية، على تركيزها على الأنشطة الزراعية وتربية الحيوانات. لا تعاريف مختلفة في الريف. بالمدينة تعاريف لا تحدث معظم الوقت في الريف.

هكذا، دفع عاصي الرحباني زياد الرحباني، إلى وعيه الأول من خلال اللاوعي. لا وعي سيقوده إلى التسليم بالوعي في مراحل الوجود في المدينة. مدينة لم يغادرها، حتى حين هاجمها الجن الأرقط. مدينة وجوده العالي بالفعل مذ وجد فيها مجاله، حين انتُزِع مخيم تل الزعتر من أهاليه على أيدي القوات المحلية من يمين متطرف وقوات الردع السورية. لحظة نجاة زياد الرحباني، اختباره الحقيقي، في سقوط مخيم تل الزعتر على مرآه. لم يتوقف عن التفكير بسقوطه، حين لم يسعده أن يرى الضباط السوريين في منزل والديه يخططون لفرض الواقع الجديد على مخيم الفقراء الفلسطينيين، بإخراجهم منه قتلى أو مهجرين، كما لو أنهم يخرجون مستحمين من حماماتهم. 

استخدم أرباح المسرحيات في توفير مجال العمل في الموسيقى

روى زياد الرحباني الأمر، كما لو أن ليس بمقدوره التوقف عن التفكير بالأمر. لأن المخيم على بعد قريب من منزل والديه. جرأة مغادرة "المنطقة الشرقية" إلى "الغربية" لحظة جرأة ستحدد أزمانه المقبلة. لأنها الآمر الحتمي بكل ما فعله في المسرح والموسيقى والإذاعة، حين لم يقرب التلفزيون لأنه لم يجد فيه مقدمات نشرة في مشروعه. مشروع معادلات النجاح الهائلة، بحيث صار الوقت الأكثر أهمية في حياة المدينة هو ما أحدثه فيها زياد الرحباني وحسب. بالأخص في الموسيقى. ذلك أن موسيقاه زادت من حدة وحدتها مع الموسيقات الأخرى، بحيث سيطرت على الداخل المحلي وعلى موسيقى العواصم العربية على مدى أعوام لم تنته بـ رحيله، لن تنتهي برحيله. 

ذلك الزمن؛ "زمن هدوء نسبي"، أوضح أحداث زياد الرحباني الحقة، بما يفرق بكثير عما تصوره الآخرون. لأن في ما فعله زياد الرحباني في الموسيقى لا الدخول في أرض المستحيل، فتح المجال أمام موسيقى أخرى من أفضل ما ألفه موسيقي. لأنها تألفت لا على الضروري ولا على الجلبة، على ثقافة واسعة دورت زوايا اللقاء بين الموسيقى الشرقية والموسيقات العالمية. لم يشعر الرحباني بأهمية ما فعل، لأنه من طبائعه المكرسة فيه. رجل لا يدخل تحسينات، رجل لا يدخل إلا إلى الصمامات من إصغاءاتها إلى دوائرها. "الجاز الشرقي" واحد من منجزات زياد الرحباني. عالِمٌ مجنون اخترع آلة عجائبية أخرى اندفعت إلى المزيد من المدفوعات الإبداعية بدوي بلا دمدمة. الجاز والبلوز والروك والباسادوبلي. دام الأمر أعواماً ولا يزال. وحين وجد العالم فيروز على قدر من الصلف والتعالي بوجودها على ما يصح من أقوالها لا من أقوال الآخرين، وجدها زياد الرحباني غماراً لا يزال بقدرته أن يفضي إلى سلسلة من الإبداعات انطلقت ممن رآه البعض هذيان زياد الرحباني إلى تحرير علاقة فيروز من الأخوين، عاصي ومنصور، بوضعها في صفاء آخر، صفاء فريد، صفاء العلاقة بجيله وجيل آخر تلاه. جيل الإنترنت. وضع الرحباني زياد، وضع فيروز بغضون دروج جديد استخدمه بتوفير العلاقة بين الوالدة السبعينية وجمهور العشرين. 

هذه واحدة من اللحظات العظيمة من زياد الرحباني لفيروز، حين لم يضعها في ضوء عناء التأقلم مع الألفية الجديدة، إذ حتم عليها أن يضحي نجاحها معادلاً لنجاحه في الأوساط الشبابية. نجاح تحريك عصي الروافع الجديدة مما ساوره من انتقالاته المعرفية بين موسيقى الشرق وموسيقى أميركا اللاتينية وأميركا البيضاء وأوروبا. عمر جديد لفيروز بعد تجربة لا يقال إن أصحابها يعتدون بها، لأنها تجربة أخوين لم يقفا أمام القصائد إلا بتأليف أفضل الموسيقات. آخر أعمال زياد الرحباني لفيروز "إيه في أمل" بعد أن غنت "عهدير البوسطة"، و"زعلي طول أنا وياك "وكيفك إنت"، بعد "سألوني الناس"، و"عصفورة البرد" و"رح نبقى سوا" و"سفينتي بانتظاري". لم تقع مصادفة قضية حين أصبح من الطبيعي أن يصل زياد الرحباني إلى والده الموسيقي وعمه منصور في ذاتياته الموسيقية وتوافقها مع أعمال الأخوين، من روحها لا من إدراجها في أنحائها المادية. ابتعد عن شعور المهندس لدى الوالد والعم إلى واقع عدم دوام تلك اللحظات بصوت فيروز، إلا بما يعتد به على صعيد إنتاج موسيقى جديدة ستقود الصوت القديم إلى العالم الجديد.

وجد في اللغة مبرر وجود، تحدث بشيء وهي تسعى وراء شيء

جاء زياد الرحباني إلى المدينة من ريف قدم فيه أولى مسرحياته "سهرية". وجد خالد العيتاني (صاحب البيكاديللي والسارولا، صالتان من أشهر الصالات البيروتية، قدم فيهما فنانون عالميون حفلات لا يزال صداها في فضاء المدينة حتى اليوم) أنها فصل الرحباني الأول في مغادرة الريف إلى المدينة، ما سيجعل أموره مختلفة عما جاءت عليه. وجد الجمهور الرحباني في "نزل السرور" كما لو أن أفضل ما يقع وقع في مدينة تفرغت لقضايا العالم، لا لقضاياها. ثم، دام الأمر ما دام زياد الرحباني يوقع على مسرحية. استخدم أرباح المسرحيات في توفير مجال العمل في الموسيقى. 

قال إنه لا يحب المسرح. قال إنه يمول موسيقاه من أعماله المسرحية (لقاءات شخصية). طرق عدداً من السبل لتمويل أعماله الموسيقية، حتى قال إن كل كونسير موسيقى كلف منتجه إصابته بكونسير، في واحدة من ألعابه اللغوية. ذلك أن الرحباني وجد في اللغة مبرر وجود، تحدث بشيء وهي تسعى وراء شيء. هكذا، واصل الحفاظ على مسافة بين المنطوق وطمع المنطوق بقتل الخيبات بالسخرية، واحدة من أعياد ميلاده باللغة، بالمشافهة اللغوية. ما لم يسبق سماعه ولا فهمه على ما هو عليه. أي ما سيحدث حدث في لغة جزلة جذابة، لم يُسعد صاحبها يوماً بالحصول على المال، إذ إن المادي الجدلي اكتفى من المقولة العالمية بالجدل دون المال. لم يهمه المال يوماً. لم يصل إلى لحظة لم يتصارع فيها مع رأس المال، غير أنه استقر على رفض الدوافع الجلية لرأس المال هذا في عدم تحقيق الأرصدة الإيجابية للفنون قدر تحقيق هذه الأرصدة في حسابات أصحابه. 

جاءت مشافهاته في المسرح والأغنية، في مواضعها في أعماق الناس، حتى استعملوها في دفاعاتهم عن أنفسهم، مواقفهم، قضاياهم. شيء يستعصي تحديده إلا من صاحبه، مع ذلك وجد فيه الجمهور أصوله اللغوية الحية المفقودة، إلى حين جاء زياد الرحباني بطبائعه اللغوية المحشودة بالمشاعر، بالخفة، لا بالثقل، ولو أنها في سخريتها أكثر جدية من جد لن يسعد أحد بالحصول عليه. عالج الشفاهي لدى الرحباني أمور العقود الحياتية وكل شأن تعامل معه الناس بصعوبة أو تردد. بلغته، انتهت الصعوبة، انتهى التردد.

رجل موسيقى لا رجل طماع مسرح. قدم، على الرغم من جدية الأمر، مسرحيات كل مسرحية حدث. مع "بالنسبة لبكرة شو"، و"فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل"، و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، و"لولا فسحة الأمل". قدمت المسرحيات في فؤاد المدينة، أشهر لكل مسرحية، لا مجال فيها للتشكيك في قدرة الرجل على الإبداع. مؤلف، ملحن، مخرج، لازم مسرحياته، بحيث لم يستطع أحد انتزاعها منه. مسرحيات لا تزال تواصل الإلحاح على الذاكرة. تبقى، ستبقى. تحضر في اغرب اللحظات بأغرب لحظاتها .

أضحى صوت فيروز وأداؤها لدى جيل الشباب كالتنفس مع زياد الرحباني. إنجاز لم يدفع إلى نوم الصوت في الألفية الماضية. غير أن لزياد الرحباني عنانه في الانسياق وراء تجاربه، حتى إنه لم يدوّر علاقته بالموسيقى الشرقية بصالح المزاوجة بينها وبين الموسيقات الأخرى. لأن عمله تعبير عن إرهاف الموسيقي في التعبير عن الإيغالات بين الموسيقات. كل شيء يلحق بكل شيء. هذه معادلة هذا العبقري في الموسيقى، أحد أفضل الممثلين الشعبيين على خشبات مسارح بيروت كما لو أنه المسرحي الإيطالي داريو فو. وضع سعادة الموسيقى في سعادة الموسيقى الأخرى. وضع سعادة موسيقاه بسعادة مستمعي صوت فيروز حين الاستماع إليه. لم يلهه شيء عن فنونه. رجل يلتقط الشوارع كما يلتقطها أعمى، عراف، أسلم حكمته الشوارع. الرائي، أشار إلى الصلب القريب للمواطن اللبناني على أسربة إنجازات البنك المركزي، قبل أن يقع الصلب.

حاول أن يؤلف حزباً سياسياً أكلته الظروف والنصائح، لم يترشح إلى الانتخابات النيابية، لأنه وجد فيها جراثيم الأنسال الفاسدة. غير أنه أكثر من المتاع على وجه الأرض. وجوده من المتع، كلامه، حواراته، تسجيلاته. لولا الأخيرة في "بعدنا طيبين قولوا الله" مع جان شمعون في الإذاعة اللبنانية في الجولة الأولى من الحرب الأهلية في لبنان لقل صمود اللبناني في أرضه. لولاه لقلّت قدرة اللبناني على الصمود في فارغ صحونه في العشريات الأخيرة. إنه مكرمة لا تنفد. لأن إبداعه لا يموت. لا يموت من لا يموت إبداعه. هو من شرَّق العزف على الغيتار، من لعب على البيانو وكأنه طبلة تمرّ بين شقوق الرؤى. الآن، الآن، يتوهج ألق الحتف، بعد أن انتصر على غصات البلاد الدموية بتحويله الحرب إلى سمفونية. خسارته نار ترمي في فضاء المتاعب، لأنه حفر اسمه معتلياً للصفحات، كإسبارطي، يساري، لا يهمه الغياب في باب من أبواب البحر.

* كاتب ومسرحي لبناني

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية