
عاد الأدب المرتبط بالقضية الفلسطينية إلى صدارة حركة الترجمة الأدبية في هولندا، مع بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وذلك بعد أن تراجع نسبياً خلال فترة الربيع العربي. وتُعدّ دار يورخن ماس للنشر الأكثر نشاطاً في الترجمة من العربية إلى الهولندية. ففي نهاية عام 2023، أصدرت الدار ترجمة جديدة لرواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني. وفي عام 2024، أصدرت الدار ترجمتين جديدتين: الأولى لرواية "حديقة السيقان" لمحمود جودة، والثانية لرواية "مذكرات دجاجة" لإسحق موسى الحسيني.
كما نشرت الدار ترجمة ليوميات الكاتبة الفلسطينية فاتنة الغرة، التي تعود إلى غزة بعد خمسة عشر عاماً من الغياب، لتشهد اندلاع الحرب. وقد كتبت يومياتها في شكل رسائل جُمعت في كتاب تُرجم إلى الهولندية بعنوان "النزوح إلى غزة". وفي العام نفسه، أصدرت الدار أيضاً ترجمة لديوان محمود درويش "أثر الفراشة"، إضافة إلى مجموعة قصصية تصوّر يوميات الغزيين بعنوان "الرجل الذي نظر إلى الوراء" للكاتب عامر المصري.
مشهد ثقافي أوسع
تُضاف هذه الترجمات إلى سلسلة منشورات تُعنى بالعالم العربي عموماً. فقد أصدرت دار بولاق للنشر، المتخصصة في الكلاسيكيات العربية والإسلامية، كتاب "تاريخ المغرب"، وهو عمل مشترك للمستشرقين هيرمان أوبداين وباولو دي ماس والمؤرخة المغربية الهولندية ناديا بوراس. كما أعادت الدار طباعة كتاب "الفلسفة الإسلامية" مرفقاً بمقدمة جديدة للفيلسوف والمستشرق الهولندي ميشيل ليزنبرغ. ورغم أن الكتاب ليس مترجماً من العربية، فإن مصادره معتمدة في معظمها على نصوص عربية أصلية أو مترجمة.
من التركيز على الفكر والفلسفة إلى أدب السجون والثورة
من جهة أخرى، أصدرت دار يورخن ماس ترجمة فرنسية لرواية الكاتب الجزائري الطاهر جاووت بعنوان "المتلصصون".
تشير خريطة الترجمة إلى تحوّل واضح في اهتمامات المترجمين الهولنديين. فقبل الربيع العربي، كانت الغلبة لترجمة الكتب الفكرية، ولا سيما تلك التي تتناول الفلسفة الإسلامية. على سبيل المثال، جمع المستشرق فيم رافين أحاديث البخاري ومسلم في كتاب صدر عن دار بولاق عام 1997. وفي السياق نفسه، صدر عن دار كليمنت عام 2006 ترجمة جديدة لكتاب "فصل المقال" لابن رشد، وفي عام 2007 ترجمة "حي بن يقظان"، وفي العام ذاته ترجمة "ألف ليلة وليلة". وواصلت الدار إصدار ترجمات لكتب التراث مثل "السيرة النبوية" لابن إسحق عام 2008، و"رحلة ابن بطوطة". وفي عام 2010، صدرت ترجمة مقدمة ابن خلدون. كما شهدت هذه الفترة اهتماماً ملحوظاً بأعمال نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.
وخلال تلك المرحلة تُرجمت أعمال أدبية نجيب محفوظ وغيره من الكتّاب العرب، إلا أن الاهتمام كان موجهاً بدرجة أكبر إلى الأعمال الفكرية والفلسفية.
أدب ما بعد الربيع العربي
مع اندلاع ثورات الربيع العربي، حاز الأدب النصيب الأكبر من الترجمات إلى الهولندية. تنوّعت موضوعات الكتب المترجمة بين أدب السجون، والثورة، والهجرة. فقد تُرجمت مجموعة شعرية للشاعر الفلسطيني السوري غياث المدهون تناولت الهجرة من دمشق، كما تُرجمت أعمال روائية لكل من المغربي محمد شكري، والسوري خالد خليفة، والكاتبة السورية ديمة ونوس (رواية "الخائفون" عن دار سخنانور). كما صدرت ترجمات لرواية "فرانكنشتاين في بغداد" للروائي أحمد سعداوي عن دار دي خوس، ورواية "مياه متصحرة" للكاتب حازم كمال الدين عن دار بولِس. ومن أدب السجون، تُرجمت رواية "القوقعة" للسوري مصطفى خليفة عن دار يورخن ماس.
ازدهار حركة الترجمة
يرجع ازدياد نشاط حركة الترجمة من العربية إلى سببين رئيسين، هما: نشاط الجاليات العربية في المشهد الثقافي الهولندي، وميل المستشرقين المعاصرين إلى الترجمة، إذ شهدت هولندا موجات هجرة كبيرة في العقود الأخيرة من بلدان عربية مختلفة، لا سيما المغرب والعراق وسورية. وشكّل المهاجرون العرب جاليات تُعدّ جزءاً أساسياً اليوم من المجتمع الهولندي المتنوّع وتُسهم في حراكه الثقافي.
يقدّم المستشرقون الجدد صورة موضوعية عن الأدب العربي
ويساهم أبناء الجيل الثاني من المهاجرين في الفضاء الثقافي الهولندي، ويلعبون دور الوسيط الثقافي بين الثقافة العربية والهولندية من خلال الترجمة، إذ ينتمي هذا الجيل إلى الثقافتين معاً: ثقافة البلد الذي هاجر والداه منه، وثقافة البلد المضيف الذي وُلد فيه. مثال ذلك الكاتبة والمترجمة المغربية نسرين مباركي، التي تكتب باللغتين العربية والهولندية، وتترجم الشعر العربي إلى الهولندية، حيث ترجمت لشعراء معاصرين مثل الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة.
المستشرقون المعاصرون والترجمة
يلعب المستشرقون المعاصرون دوراً بارزاً في تزايد نشاط حركة الترجمة، إذ يميل الجيل المعاصر من المستشرقين إلى تحديث الكلاسيكيات ونقد الاستشراق التقليدي من خلال تقديم صورة موضوعية عن الأدب العربي والفكر الإسلامي، نابعة من العالم العربي والإسلامي نفسه، لا من المتحدثين الغربيين عنه، كما كان عليه الحال في الاستشراق الكلاسيكي.
ولا يقف دور المستشرقين المعاصرين عند الترجمة فحسب، إذ يمتدّ نشاطهم الثقافي ليُعبّروا عن مواقف واضحة تجاه قضايا عربية عملوا عليها، درسوها، وفهموها جيداً. فقد ركّزت أستاذة الأدب العربي في جامعة أمستردام، المترجمة جوكا بوبينغا، في أعمالها على أدب القضية الفلسطينية والثورة السورية، فترجمت لغسان كنفاني، وغياث المدهون، ويوميات من غزة لكتّاب معاصرين. وبعد اندلاع الثورة السورية، ترجمت لكتّاب سوريين. أما أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة أمستردام، المستشرق صاحب ترجمة ألف ليلة وليلة، فقد اهتمّ بترجمة شعر محمود درويش، إلى جانب اهتمامه بأعمال نجيب محفوظ.
* كاتب سوري مقيم في هولندا
