
توقّع زوار الدورة العشرين من معرض الكتاب الدولي في الإسكندرية أن تتقاطع في فعالياته الثقافة مع أسئلة الواقع، لكن كان المشهد في أروقة مكتبة الإسكندرية مختلفا عما توقعوه. فالسياسة غائبة تماماً، وآمالهم في معرض يطرح أسئلة الواقع على الثقافة، لم تتحقق. بل وجدوا أنفسهم في معرض بلا تساؤلات جدلية، ولا نقاشات فكرية. مع أن زخم الفعاليات فاق 215 ندوة وورشة ومحاضرة.
ورغم أن المعرض، الذي تتواصل فعالياته حتى 21 يوليو/تموز الجاري، يشهد مشاركة 78 دار نشر من مصر والعالم العربي، وحضور أكثر من 800 متحدث ومشارك في أنشطته المتنوعة، بدا لافتاً الغياب شبه التام لأي محتوى سياسي أو نقدي ضمن البرنامج الثقافي. فالمعرض، الذي يُعد أبرز حدث ثقافي سنوي في المدينة الساحلية، جاء هذا العام خالياً من الندوات التي تلامس الشأن العام أو تحلّل القضايا السياسية والاجتماعية الراهنة، ما أثار تساؤلات حول طبيعة "الثقافة" التي يُراد تسويقها تحت هذا السقف.
الثقافة في مساحة آمنة
تركّزت الفعاليات هذا العام حول الكتابة الإبداعية للأطفال واليافعين، وتاريخ الفنون، والتراث، والذكاء الاصطناعي، إلى جانب أمسيات موسيقية ومهرجانات فنية، دون أي حضور يُذكر للموضوعات السياسية أو النقاشات الجادة التي تتناول أسئلة الواقع والتحولات الاجتماعية.
الناقدة الفنية نهى خليل علقت على هذا التوجه بقولها "ما نراه ليس غياباً عشوائياً، بل رقابة ناعمة تُقصي كل ما يثير التفكير أو يطرح تساؤلات. المعرض تحوّل إلى مهرجان ترفيهي، يخدم صورة مؤسّسية أكثر من كونه فضاءً للتنوير". وتضيف أن الموضوعات المدرجة، من الذكاء الاصطناعي إلى التراث الشعبي، لا تحمل في طياتها أسئلة إشكالية، بل تأتي في سياق "التثقيف الآمن"، حيث لا مكان للجدل أو المواجهة الفكرية.
يقول محمد مكي، أحد زوار المعرض، إن غياب الموضوعات السياسية بات تقليداً في السنوات الأخيرة: "اعتدنا في دورات سابقة أن نجد ندوات تلامس الواقع، تتحدث عن الحريات، عن الهوية، حتى عن الدولة. اليوم تحول المعرض إلى مساحة تجنّب المواجهة، وكأن السياسة محرمة على الثقافة".
يرسّخ المعرض مشهداً ثقافياً منزوع السياسة يعكس رؤية السلطة
أما سهام عبد السيد، زائرة معتادة للمعرض، فترى أنَّ الفعاليات اليوم تندرج في إطار "التسلية الثقافية"، دون محاولة لفهم القضايا المصيرية التي تعيشها البلاد، سواء في الاقتصاد أو التعليم أو الفضاء العام، مضيفة: "لم يعد أحد يجرؤ على طرح الأسئلة الجادة".
رؤية مؤسسية
يتفق عدد من المشاركين والضيوف على أن تغييب السياسة ليس قراراً عشوائياً، بل انعكاس لرؤية ثقافية رسمية تعتبر التثقيف مسألة شكلية أكثر من كونه تفكيراً في الواقع. نقيب الصحافيين الأسبق بالإسكندرية، عامر عيد، يرى أنَّ ما يحدث هو "عزل قسري للسياسة عن الثقافة، مما يقوض دور المعرض كمختبر للأفكار". ويضيف: "الثقافة التي لا تسائل الواقع، تتحول إلى ملحق للترفيه. والمثقف الذي لا يجرؤ على الكلام، يتحول إلى موظف في مؤسسة ثقافية بلا جدوى".
أما الرئيس السابق لقطاع المشروعات بمكتبة الإسكندرية، خالد عزب، فيرى أنَّ "المعرض لا يتبنى أجندة سياسية بطبيعته، لكن كان يجب أن يقدم برنامجاً ثقافياً يحفّز على النقاش حول قضايا الأدب والفكر وتطورات المجتمع، لا أن يكتفي بالأمان المؤسسي".
في خلفية هذا المشهد، تبدو مكتبة الإسكندرية وكأنها تعيد تعريف "الثقافة" وفق معايير لا تتجاوز "اللغة النظيفة"، و"التراث المحايد"، و"المعارف التقنية"، دون الدخول في مساحات الجدل السياسي أو القيم المجتمعية المتغيرة. وبينما تحتفي المؤسسة المنظمة بالتنوع والانفتاح، يغيب عن جدولها صوت المختلف والمفكر. فيرى البعض، حسب ردود الفعل، في ذلك انعكاساً لسياق عام تشهده الثقافة العربية، حيث تتحول التظاهرات الكبرى إلى مساحات خالية من الصدام، ومجردة من الرهانات الفكرية.
