سورية إلى استعادة الحياة البرلمانية
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

شكّل الرئيس السوري أحمد الشرع "اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب"، في خطوة تؤسّس لاستعادة الحياة البرلمانية، بعد انهيار نظام الاستبداد، وتنهي عقوداً من العدمية السياسية، وتدفع إلى بناء دولة ديمقراطية حديثة، قدّم السوريون ثمناً باهظاً من أجل الوصول إليها. وأناط المرسوم الرئاسي باللجنة الإشراف على تشكيل هيئات فرعية في المحافظات، تنتخب ثلثي أعضاء "مجلس الشعب"، على أن يعيّن الرئيس الثلث الأخير كما نصّ الإعلان الدستوري الناظم للحياة السياسية للبلاد خلال الفترة الانتقالية، والمحدّدة بنحو خمس سنوات. ويتكون المجلس التشريعي المنتظر من 150 عضواً، موزّعين حسب عدد السكان على المحافظات، وفق فئتي الأعيان والمثقفين، ووفق شروط تقرّها اللجنة العليا للانتخابات.

ولم يحدّد المرسوم فترة لهذه اللجنة للانتهاء من مهامها التي تتطلب زيارة المحافظات السورية لتشكيل هيئات ناخبة. ولا تزال واحدة من أكبر المحافظات السورية وأكثرها أهمية، وهي الحسكة، خارج سيطرة الدولة السورية، فضلاً عن الجزء الأكبر من محافظتي الرقّة، وجانب من محافظة دير الزور وآخر من ريف حلب الشمالي الشرقي، وكل هذه المناطق تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والتي لم تدخل الحياة السياسية في البلاد بعد. وحافظ المرسوم على التسمية التي كانت معتمدة لدى النظام البائد للمجلس التشريعي، وهي "مجلس الشعب"، ما فجّر مخاوف لدى قطاع واسع من السوريين من اتجاه الإدارة إلى اتباع الآليات نفسها التي اعتمدها "البائد" في اختيار أعضاء هذا المجلس. وبعد تشكيل اللجنة، دبّت الحياة من جديد في مبنى المجلس في سوق الصالحية في دمشق، والذي يعد من معالم العاصمة السياسية، ويرتبط بذاكرة السوريين ارتباطاً كبيراً، فهو عنوان بارز لمجدهم من جهة، وغفلتهم من جهة أخرى. 

في 1928، جرت انتخابات لـ"مجلس تأسيسي" وضع أول دستور للبلاد، في أعقاب القضاء على الثورة السورية الكبرى

عرف السوريون الحياة البرلمانية قبل 105 سنوات، فبلادهم كانت من الدول العربية السبّاقة في هذا المجال الذي لم يكن سائداً في هذه الدول، سواء التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية أو خارجها. ويُنظر إلى المؤتمر السوري الأول في منتصف عام 1919 في النادي العربي بدمشق بعد خروج الأتراك من سورية أنه أول صيغة تشريعية تمثيلية للشعب في التاريخ السياسي للبلاد. وكان عدد أعضائه 90 عضواً من أنحاء سورية الطبيعية كافة (سورية، لبنان، الأردن، فلسطين)، واستمرّت أعماله نحو عام، شرّع خلاله الحكم الملكي بقيادة فيصل بن الحسين (1883- 1933)، وصاغ أول دستور في تاريخ البلاد، اختار النظام البرلماني الدستوري للحكم. ولكنه لم يدم، فمع دخول الفرنسيين إلى سورية منتصف عام 1920 حلّت قوة الانتداب المؤتمر السوري، وبذلك دخلت البلاد فراغاً سياسياً وثورات ضد قوة الاحتلال الجديدة التي قسّمت سورية إلى دويلات على أسس طائفية فجة. 
وفي 1928، جرت انتخابات لـ"مجلس تأسيسي" وضع أول دستور للبلاد، في أعقاب القضاء على الثورة السورية الكبرى، ذهبت أغلب مقاعده إلى "الكتلة الوطنية" التي كانت أبرز التشكيلات السياسية في ذاك الحين. لكن الفرنسيين عطّلوا المجلس بسبب الخلاف على مواد الدستور إلى أن جرت انتخابات أخرى في 1932، ثم جرت انتخابات أخرى في 1936. ولكن اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 أدّى إلى تعطيل الدستور في سورية إلى 1943، حيث نُظّمت انتخابات برلمانية فازت بها "الكتلة الوطنية" مرة أخرى. وفي 29 مايو/ أيار، رفضت حامية المجلس النيابي في دمشق إنزال العلم السوري عنه وتحية العلم الفرنسي، فقصفت القوات الفرنسية المبنى ما أدّى إلى مقتل عناصر من هذه الحامية، في موقف بطولي لا يزال حاضراً في الذاكرة، مهّد الطريق أمام استقلال سورية وخروج الفرنسيين منها بشكل نهائي في إبريل/ نيسان 1946. وبعد استقلال سورية بعام، نُظّمت انتخابات جديدة نتج عنها مجلس نيابي لم يعمّر طويلاً، فقد وقع في 1949 أول انقلاب عسكري في سورية، قاده حسني الزعيم الذي قتل بعد أشهر في انقلاب آخر قاده سامي الحناوي والذي لقي هو الآخر حتفه في 1950. ولكن يُحسب لهذا الرجل أنه رفض تولي السلطة بنفسه، وسلّمها لسياسيين تقليديين وانتخبت جمعية تأسيسية وضعت الدستور الأشهر في 1950. في نهاية 1949 شهدت البلاد انقلاباً ثالثاً قاده أديب الشيشكلي الذي حيّد الدستور، ووضع دستوراً آخر أجريت على أساسه انتخابات لمجلس نيابي جديد راحت أغلب مقاعده لحركة التحرير العربي (تزعّمها أديب الشيشكلي)، والحزب القومي السوري. في 1954، غادر الشيشكلي البلاد بعد انقلاب عليه. وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، عادت الحياة البرلمانية إلى سورية، فجرت انتخابات دفعت أحزاباً قومية إلى الواجهة، مثل حزب البعث العربي الاشتراكي. أقر ذاك المجلس الوحدة مع مصر في 1958، والتي لم تدم طويلاً فحدث الانفصال في 1961 أعقبته انتخابات نيابية كانت الأخيرة في البلاد التي دخلت عام 1963 مرحلة جديدة ساد فيها الاستبداد وتحكّم الحزب الواحد بالحياة السياسية. استولى في 1970 حافظ الأسد على السلطة ووضع في 1974 دستوراً نص على أن حزب البعث "قائد الدولة والمجتمع"، واعتمد على مبدأ تعيين أعضاء مجلس الشعب من الحزب الحاكم وأحزاب ما سمّيت "الجبهة الوطنية"، التي تدور في فلكه وبعض المستقلين المقرّبين منه. وفي عقد التسعينيات، سمح الأسد بانتخابات للمستقلين، ما سمح بدخول بعض الأسماء المعارضة للنظام، لعل أبرزها رياض سيف، والذي لم يحتمل النظام وجود معارض حقيقي له تحت قبّة مجلس الشعب، فاعتقله  سنوات.

مرّ قرن وأكثر على أول تجربة نيابية ديمقراطية في سورية، تجدّد آمال السوريين باستعادتها بشكل أكثر تطوّراً وتمثيلاً وقدرة على الفعل

في منتصف عام 2000 توفي حافظ الأسد، فاجتمع مجلس الشعب بعد شهر وعدّل خلال دقائق المادة 83 من الدستور التي تنص على أن سن الرئيس يمكن أن تكون 34 سنة، وهي سن بشار الأسد في ذلك الوقت. جرت قبل انطلاق الثورة السورية في ربيع 2011 أكثر من عملية انتخابية، كلها كرّست سلطة حزب البعث، وسطوة الأجهزة الأمنية في بلاد بلا سياسة. في  2012 وفي سياق محاولات فاشلة لوأد الثورة، وضع بشّار الأسد دستوراً على مقاسه، ألغى شكلاً المادة الثامنة من دستور أبيه والتي تنص على قيادة "البعث" الدولة والمجتمع. لم يتغيّر شيء في المشهد السياسي على الإطلاق، ما خلا إدخال النظام البائد متهمين بارتكاب جرائم حرب ومتزعمي مليشيات وتجار مخدّرات الى مجلس الشعب الذي كان يكتفي بالفرجة على بلاد تحترق طوال سنوات. كان مجرّد واجهة خالية من أي قيمة سياسية، مهمّته التصديق على ما يردّه من قوانين صادرة عن بشار الأسد لا أكثر ولا أقل. لم يكن السوري يعيره أي اهتمام وأي احترام، تعلوه الكآبة كلّما مرّ في شارع الصالحية أمام مبنى البرلمان الذي كان عنواناً بائساً للعجز والاستبداد واللهو السياسي الماجن، والعدمية. 
مرّ قرن وأكثر على أول تجربة نيابية ديمقراطية في سورية، تجدّد آمال السوريين باستعادتها بشكل أكثر تطوّراً وتمثيلاً وقدرة على الفعل، وربما يعتبر تشكيل "اللجنة العليا للانتخابات"، خطوة في اتجاه حياة برلمانية حقيقية بناء على دستور عصري يفتح أبواب سورية ونوافذها التي ظلت مغلقة حيناً ثقيلاً من الزمان، أمام التغيير الذي دفع من أجله السوريون ثمناً باهظاً، لتعبيد الطريق أمام مجلس حقيقي لـ الشعب.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية