بابٌ حجريٌّ مخلوع
عربي
منذ 12 ساعة
مشاركة

( إلى روح ابن مدينة إدلب المؤرخ والباحث السوري فايز قوصرة)

ضجَّت وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي بخبر كشف مدفن روماني بيزنطي في مدينة معرَّة النعمان (بلدة فيلسوف المعرَّة) في الحيّ الشماليّ، وذلك أثناء حفر أرض صخرية بين البيوت بقصد البناء. تناقلت الخبر وسائل التواصل الاجتماعي أوّل الأمر، ومن ثمَّ تبعتها، بعد أيّام قليلة، الجهات المُختصة في مديرية آثار محافظة إدلب. وقد ذكر مدير آثار محافظة إدلب السيد حسان إسماعيل، في لقاء بالصوت والصورة من موقع المدفن: أنه وبعد الحفر، العشوائي، تكشّف الموقع عن مدفنَين منفصلَين، كلّ منهما يتألف من ستة قبور. وأغلب الظن يعود تاريخ هذين المدفنين إلى العصر الروماني - البيزنطي، والدليل على ذلك، وجود صليب على أحد أعمدتها، ويمكن تأريخها بين القرنين الرابع والخامس الميلاديين. وقد تعرَّض الموقع لكثير من التخريب خلال أعمال الحفر، وجرى العثور على بعض القطع الفخارية وقطع من العظام في كلّ قبر.

حين شاهدت الصور وتسجيلات الفيديو راعني ما رأيت. وتذكَّرتُ مجهودات أستاذنا الباحث الكبير فايز قوصرة ابن مدينة إدلب، رحمه الله، الذي عمل كلّ حياته في محاولة توثيق آثار محافظة إدلب بالكلمة والصورة وقدّم أكثر من عشرين مؤلفاً في هذا الباب. الفيديوهات والصور المعروضة عن المدفن تُثبت بأنّ آثار التخريب واضحة، وأغلب الظن تعود إلى أمرين اثنين، الأوّل كان عن حسن نيَّة، وهي البحث عن لقى ثمينة (حسب الاعتقاد الشعبي) من ذهب وغيره داخل القبور التي حافظت على شكلها وموقعها كما هي من أكثر من ألف وخمسمئة عام. أما الثاني، فهو تكسير القبور عن عمد كي لا تُعيق مراحل البناء الجارية، وأسأل: هل توقفت أعمال الحفر في الموقع أم أزيل ما تبقى من المدفنين؟ 

ما يدعو للدهشة والأسف فتح القبور، مع غياب أهل الاختصاص، ما أدى إلى العبث بها بصورة مروّعة. فقد كانت القبور مغلقة بإحكام ببلاط حجريّ منحوت لهذه الغاية، لذلك حافظت على ما بها من هياكل عظمية بشرية سليمة، ونبشها بهذه الطريقة الفجَّة والعشوائية قد طمس الكثير من المعلومات الأثرية المهمة، فلو تمَّت المحافظة (بجهود الأهالي ووعيهم) على الموقع كما تركته الأيادي البشرية في القرن الرابع أو الخامس لكانت لُقية أثرية ثمينة ونادرة. 

نبش القبور بطريقة فجَّة وعشوائية قد طمس الكثير من المعلومات الأثرية المهمة

وهنا تذكَّرتُ في هذا الباب (وفي حلقي غصَّة) ما جاء على لسان القاضي أبي يعلى عبد الباقي بن أبي حصن المعرَّي، وهو قاض من الشعراء، وتقصُّ المرويات بأنّه حفيد أخ لأبي العلاء المعرَّي، وليَّ القضاء في المعرَّة إلى أن دخلها الإفرنج، فانتقل إلى قلعة شيزر وتوفي فيها، وله ديوان شعر وعدة رسائل، مات أغلب الظن عام 523 هـ/ 1129م. وقد مرّ يوماً بقرية يُقال لها "سِياث" قرب معرَّة النعمان فوجد الناس ينقضون بنيانها ليعمّروا به موضعاً آخر، فهاله ما رأى، فقال يصف الحال:

مرّرت برسم في "سِياث" فراعني

به زجل الأحجار تحت المعاولِ

تناولها عَبْلُ الذراع كأنما

رمى الدهر فيما بينهم حرب وائلِ

أتتلفها؟ شُلَّت يمينك! خلّها

لمعتبر، أو زائر، أو مسائلِ

منازل قوم حدَّثتنا حديثهم

ولم أر أحلى من حديث المنازلِ.

هذه الملاحظات أكتبها على هامش هذا الاكتشاف التي تكمن أهميته في أنه حافظ على شكله ومُقتنياته الأصلية مطموراً ولم تعبث عاديات الزمان به، حتى جاءت الحفارات الحديثة فعبث به عبثاً شديداً في يومنا هذا.

أقول: مدفن روماني منحوت بكامله في أرض صخرية في معرَّة النعمان يُعامل هذه المُعاملة السيئة، لماذا؟

يتزيّن الشمال السوري بمئات مواقع المدن الميّتة "المنسية"، المتناثرة على الجبال والهضاب الكلسية

الجواب يكمن في مفارقة مذهلة في دلالتها، لأنّ الشمال السوري يتزيّن بمئات مواقع المدن الميّتة "المنسية"، المتناثرة على الجبال والهضاب الكلسية من جبل سمعان في ريف حلب إلى سلسلة جبال باريشا وجبل الزاوية في محافظة إدلب، وهي تشهد على حضارة عريقة إغريقية رومانية بيزنطية بتأثيرات محلية سورية واضحة وضوح الشمس، إذ توجد العشرات، إن لم نقل المئات، من هذه المدافن الأثرية الثرية. فما الجديد في مدافن معرَّة النعمان؟

يا سيدي، تُظهر الصور بأنّ المدفنين حين أُغلق عليهما الباب الحجريّ المخلوع حديثاً مع عتبتيه ومفصله، مع الأسف "خلّها لمعتبر، أو زائر، أو مسائلِ" كانا في طور الإنشاء. كيف؟ تُظهر الصور بأنّ أعمال النحت في المدفنين المنحوتين في الصخر مع الأسقف المنحوتة كانت جارية ما تزال، بمعنى لم تكتمل بعد، ودليلي على ذلك وجود تخطيط صريح لدائرة وبتلات وردة سُداسية على تاج أحد الأعمدة كان يعمل عليها النحات ولكنه تركاها لسبب ما. والمعلومات المؤكّدة التي نقلها لنا هذا المدفن تقول إنّ أعمال النحت كانت ما تزال قائمة غير مكتملة بعد، والصور تؤكّد ذلك بوضوح، وهذا دليل لا لبس فيه على أنّ الرفات كانت في قبور المدفنين قبل اكتمال أعمال النحت وأغلق عليها الباب الحجري المزيّن برسومات من تلك الحقبة التاريخية.           

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية