
"العراق يمتلك أسلحة دمار شامل".. بهذا العنوان لرواية متخيَّلة، نطق جورج بوش عام 2003، متّخذاً أحد أكثر القرارات الجيوسياسية خطورةً في مطلع هذا القرن: غزو العراق. وببضع جُملٍ إضافية، أطلق رئيس الولايات المتحدة حرباً باسم المجتمع الدولي، استناداً إلى كذبة، كانت أجهزة الاستخبارات متردّدةً حيالها، والأدلة مشكوكاً فيها، وصور الأقمار الاصطناعية ذات تفسيراتٍ انتقائية. ومع ذلك، بُني على هذه الادّعاءات، وكرّرت مع تثبيتها حقيقةً عامّةً، حتى قيل إن العراق يهدّد أمن العالم، وإن الهجوم عليه ضروري. والحال أن الكذبة لم تأتِ نتيجةَ خطأ، بل كانت ابنة استراتيجية واعية، لأن الكذب في السياسة ليس انحرافاً أو إخفاءً للحقائق، وإنما أداةً لصنع واقع بديل يُبرّر الفعل.
في مقالتها "الحقيقة والسياسة"، تشير حنة أرندت إلى أن الكذب السياسي ليس أمراً جديداً، ولكنّ القرن العشرين بإتقانه الإعلام والدعاية حوّله فنّاً شاملاً. لقد أصبح الكذبُ نظاماً، فلم نعد نُخفي، بل نعرض ونفرض، وغزو العراق يشكّل حالةً نموذجيةً تُظهر كيف يُصبح الكذبُ روايةً رسميةً للدولة، تشرعن الحرب. ففي عالمٍ متخمٍ بالخطابات، لا يعود الكذب نقيضاً مباشراً للحقيقة، بل يصبح منافساً لها، وهو ليس خللاً أخلاقياً، بل وضعاً لغوياً طبيعياً في فضاء السلطة. الفكرة نفسها تتجسّد بوضوح في رواية "1984" لجورج أورويل، إذ يستخدم النظامُ الشموليّ الكذب السياسي والدعاية، لإعادة كتابة التاريخ والتحكّم في الواقع، فتغيب القدرة على التمييز بين الحقيقة والكذب، فيتحوّل الكذب بنيةً أساسيةً في السلطة الطاغية، وهو ما نشهده اليوم في روايات الكذب الرسمية التي تعيد تشكيل وعي الشعوب.
شنّت حركة حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 هجوماً غير مسبوق على إسرائيل. وعلى الفور، امتُصّ الحدث، وأُعيد تأويله وتشكيله من خلال روايات سياسية، وإعلامية، وعسكرية أُلِّفت ولصقت بالمناسبة. هنا ظهر الكذب، لا ستاراً يُخفي، وإنما آلةً سرديةً حربيةً تلفّق أخباراً مضادّة: لقد "قطعوا رؤوس الأطفال"، "هذا هو 11 سبتمبر الخاص بنا"، "إنها حرب ضدّ الإرهاب، لا ضدّ شعب"... هذه العبارات (وسواها) تكرّرت، تضخّمت، كُذّبت أحياناً، لكن لم تُسحب أبداً، لأنها بالفعل أدّت وظيفتها، ألا وهي تبرير ردّ عسكري عنيف، حصار خانق، قصف شامل، تجويع ممنهج، وإبادة شعب مدنيّ، بذريعة محاربة "الشرّ". هذا لم يعد كذباً، بل هندسةً خطابيةً تُخلط فيها "حماس" مع الفلسطينيين كافّة، وتُمحى الأسباب والسياقات والمسؤوليات التاريخية، لصالح سردية ثنائية: برابرة مقابل متحضّرين، ودفاع مقابل عدوان.
ومثلما حدث في العراق عام 2003، ليس مهمّاً أن تكون الادّعاءات صحيحةً، بل يجب النظر إلى ما بإمكانها تبريره، إذ يجعل الكذبُ ما لا يُتصوّر ممكناً، وما لا يُقبل ضرورياً، فيُتيح هذا التحوّل اللغوي والسياسي. هكذا مثلاً لا تقوم إسرائيل بقتل الأطفال الفلسطينيين، بل تقضي على "إرهابيين محتملين". وفي هذا السياق، يلعب الإعلام الغربيّ دوراً مركزياً، فلا يكون مراقِباً نقديّاً يقوم بالتحقّق والتثبّت، بل يكتفي بالتضخيم والتكرار وإعادة النشر، هو لا يُحلّل بعمق، بل يُبسّط؛ لا يُصحّح، بل يسطّح ويضرم النيران. وبما أنّ الكذب صادم، مثير، وسريع الهضم، فهو بطبيعته قابلٌ للانتشار. صور هجوم 7 أكتوبر تُبثّ بلا انقطاع، بينما تُحجب صور غزّة، أو تُعرض لاحقاً بوصفها "أزمةً إنسانيةً" أو "خسائرَ جانبيةً". هذا الاختلال ليس بريئاً، إنه يصوغ رؤية العالم، يوجّه التعاطف، ويؤسّس لتأييدٍ ضمنيّ للعنف الرسمي.
وقد لا يكذب الإعلامُ دوماً بشكل مباشر، لكنّه مع ذلك يفعل حين ينتقي، ويؤطّر، ويضخّم، لأن ما لا يُقال وما لا يُعرض، يُمحى من الوعي، وما يُكرَّر، حتى وإن كان زائفاً، يُصبح الحقيقة الشائعة. حتى الديمقراطية المعاصرة بدأت تتكيّف مع الكذب، وقد تُحوّل أسلوبَ حُكمٍ، ذلك أنّ السلطة لا تكذب لحماية نفسها فقط، بل لتوحيد الناس حول رواية مبسّطة تحشد المشاعرَ وتشلّ القدرة على التفكير.
في المحصّلة، ليست المشكلة أخلاقيةً فقط، بل وجوديةً، فعندما تصبح الكلمة السياسية أداةً للتلاعب، تتحوّل الحقيقةُ أداةً دعائيةً، والمواطنُ متلقّياً مبرمَجاً غير فاعل سياسياً. الرواية الكاذبة في السياسة والحكم، لا تشوّه الديمقراطية فحسب، بل هي كارثة كبرى تهدّد وجودها.

أخبار ذات صلة.
