
يمنح وجود هياكل مهنية وجمعياتية، سواء للناشرين أو الكتّاب التونسيين على الأقل، فرصة لإيصال أصواتهم والتعبير عن مشاغلهم ومشكلات القطاع الثقافي، بغض النظر عن النجاح في تجاوزها. في المقابل، يبدو مجال الترجمة أكثر هدوءاً ووداعة، لكنّه هدوء لا يعود إلى غياب التحديات، بقدر ما يُفسَّر بالتهميش وغياب التنظيم أو التحركات الجادة القادرة على توحيد جهود المترجمين والتعبير عن قضاياهم. وهكذا، أصبحت الترجمة اليوم قطاعاً ثانوياً، لا يشغل في المشهد الثقافي العام سوى مكانة هامشية، على الرغم من أنها كانت، ذات يوم، عنواناً من عناوين النهضة الثقافية الكبرى.
في عام 1945، كتب المثقف والمناضل الدستوري الشاب محمود المسعدي في مجلة المباحث مقالاً بعنوان: "لا حياة لأمة من دون ثقافة"، وأطلق في نهايته التحذير التالي: "لتحذر بلادنا، والصالحون فيها... أن يظنوا أن بقاء اللغة وحدها، والتعصب لها، ضامن لاستقلالية الذاتية ودوام طرافة الشخصية". وقد صدق حدسه، إذ سرعان ما بلغ مواقع القرار، فعُيِّن أول وزير للتربية في دولة الاستقلال، ثم وزيراً للثقافة سنة 1976. ورفقة عدد من المثقفين مزدوجي الثقافة والتعليم (العربي والفرنسي)، أمثال محمد مزالي والشاذلي القليبي، أطلق المشروع الثقافي الرسمي للدولة الناشئة، وهو مشروع أولى اهتماماً واضحاً بالترجمة، إلى حين.
لم تخلُ الحياة الثقافية التونسية من محاولات مبكرة للترجمة؛ بل على العكس، ظهرت بوادرها المنظمة في خمسينيات القرن التاسع عشر، مع ترجمات طلبة المدرسة الحربية في باردو، قبل أن تنحسر إلى جهود فردية، غالباً في مجال الأدب، مثل ترجمة سلطان الظلال لتولستوي، التي أنجزها محمد المشرقي عام 1909، إلّا أن ما يميّز مرحلة الاستقلال هو ظهور مشروع ترجمة جدي، منظم وواسع النطاق، أشرف عليه التونسيون ضمن مؤسّسات رسمية تبنّت تحديات النهضة ومواكبة العصر.
أصبحت قطاعاً ثانوياً لا يشغل المشهد الثقافي العام
في إطار المخطط الرباعي 1965–1968، أُنشئت مؤسسات عمومية عدّة، من أبرزها الدار التونسية للنشر (1966)، التي ازدهرت فيها حركة الترجمة إلى العربية، سواءً عبر مشاريع كبرى لترجمة المصادر التاريخية الأوروبية حول تونس، أو عبر ترجمات فردية مثل عمل صالح القرمادي على رواية سأهبك غزالة للجزائري مالك حداد (1986).
لكن المشروع لم يَدُم، كما حدث مع غيره من مشاريع الدولة الاقتصادية والثقافية في ما قبل السبعينيات. ومع حلول التسعينيات وتحوّل النموذج الاقتصادي نحو الخوصصة، تراجعت مكانة المؤسّسات الثقافية العمومية تدريجياً، ومن بينها الدار التونسية للنشر، التي أُهملت حتى أغلَقت وطواها النسيان.
الترجمة بوصفها نشاطاً بيروقراطياً
تخلّت الدولة عن سياسة النشر والترجمة الشاملة، وأقامت بدلاً منها نموذجاً "هرمياً ليبرالياً"، حسب تعبير روبرت إستيفال في مقاله؛ الكتاب التونسي. فاقتصر دور الدولة على الإشراف أو إنشاء مؤسّسات محددة، من بينها بيت الحكمة ومركز النشر الجامعي، أو مؤسّسات متخصّصة مثل معهد تونس للترجمة الذي تأسس سنة 2006، وأصبح عنوان السياسات الرسمية في مجال الترجمة.
بيروقراطية مفرطة تُهيمن على مؤسّسات الترجمة التونسية
كان يُفترض أن يحقق هذا التحول مزيداً من النجاعة والإنتاجية، لكن الواقع يشير إلى العكس، إذ تكفي زيارة موقع المعهد، بما فيه من مشاكل تقنية وغياب للتحديث، للدلالة على البطء الكبير في عمله، وبحسب الأرقام المتاحة، اقتصرت أهداف المعهد في عام 2025 على ترجمة 16 عملاً فقط، وهو عدد لا يليق بمؤسّسة عمومية، إنما قد يُقبل من دار نشر خاصة.
ويُعزى ذلك، بحسب كثير من الكتّاب والمثقفين، إلى البيروقراطية المفرطة التي تُهيمن على المؤسّسات الثقافية التونسية عموماً، ومنها معهد الترجمة، ففي البلاغ الذي أصدره المعهد، يوم 3 يونيو/ حزيران الجاري، لاختيار مترجمين، اعتمد المعهد آليات إدارية قديمة مثل "إيداع بمكتب الضبط"، و"رسالة مضمونة الوصول"، و"البريد السريع"، في تجاهل واضح للتطورات التكنولوجية، ووحده بند يتيم في كرّاسة الشروط تحدّث بلغة حديثة، لكنّه حمل توجّهاً محافظاً، إذ نصّ على أن "العقد يُفسخ إذا ما اعتمد المترجم في ترجمته على الذكاء الاصطناعي".
ويبدو المعهد، في عمله، امتداداً للمؤسّسات الجامعية الرسمية، إذ تقتصر شروط الترشح على الحاصلين على شهادات الماجستير والدكتوراه، فيُمنع ترجمة الأدب الفرنسي، مثلاً، إلّا على من يملكون شهادة جامعية في المجال. وهذا ما يُقصي عملياً المترجمين العصاميين أو الموهوبين من غير الأكاديميين، مهما بلغت جودة أعمالهم أو شهرتهم. والأسوأ أن هذا الطابع الجامعي الصارم لم يُرضِ بعض الجامعيين، إذ ارتفعت الأصوات المطالبة بحصر أنشطة المعهد ضمن الجامعيين دون سواهم، بل واقتراح تحويله إلى وسيلة للتشغيل في صفوف المعطلين، كما طالبت بعض التنسيقيات. وهكذا، يتحوّل مطلب إصلاح المعهد وانفتاحه على أجيال جديدة من المترجمين، إلى دعوات لتحويله إلى مؤسّسة إدارية هدفها الأساسي توفير وظائف، لا غير.
مبدعون... لكن فُرادى
رغم احتكار المؤسّسة الرسمية للمشهد، لم يُغلق الباب تماماً أمام حركة ترجمة مبدعة، خاصّة بعد الثورة التونسية سنة 2011، التي شهدت ازدهار النشر الخاص، لكن هذه الحركة بقيت فردية، متناثرة، تقودها حماسة شخصية خالصة، وتُقاوم وطأة غياب التمويل والدعم والتقدير، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك، غياب جوائز مخصّصة للترجمة، سواءً في الجوائز الرسمية (مثل جوائز وزارة الثقافة)، أو الخاصة (مثل جائزة الكومار الأدبية).
في حديث مع المؤرخ المتخصّص في الدراسات الموريسكية حسام الدين شاشية، حول ترجمة كتاب ضخم للراهب الإسباني فرانشيسكو خيمينث، اعتبر أن هذا المشروع، وإن وُجدت له رغبة حقيقية، يتطلب تنسيقاً وتمويلاً ضخماً، يتجاوز إمكانات الأفراد، ويكاد يكون من مشمولات الدولة وحدها.
مع ذلك، خاض بعض المترجمين هذه المغامرات الكبرى، منفردين. منهم الشاعر جمال الجلاصي، الذي انطلق منذ 2019 في مشروعه لترجمة الأدب الأفريقي، لا سيّما الشعر، فترجم أعمال سنغور، وإيمي سيزار، وآلان مابانكو وغيرهم. لكنّها بقيت ترجمات فردية، متناثرة بين دور نشر عربية ومحلية، ونتاج مجهود شاق، يصبح فيه نشر كل عمل إنجازاً قائماً بذاته.
هكذا، تختصر قصة الترجمة التونسية تاريخاً من النجاحات الصغيرة، عبر سبعين عاماً من التقلّب بين الحلم والواقع، بين الطموحات الكبرى والبيروقراطية المُحبطة، بين المؤسّسة الرسمية التي تشيخ، والمترجم الفرد الذي لا يستسلم، ولا يزال، كما يقول الجلاصي، "يُهرّب الأرواح"... واحدة تلو الأخرى.
* كاتب من تونس
