
يواجه الاقتصاد الأميركي عاصفة من التحديات هذا الصيف، وسط حالة عدم اليقين التي يفرضها الرئيس دونالد ترامب من خلال سياساته الداخلية والرسوم الجمركية التي يفرضها على العالم. وتستجيب الأسواق بالارتباك المتواصل بعد كل قرار يصدر عن ترامب، فيما بدأت ملامح التضخم تظهر أكثر وضوحاً مع تصاعد قلق الشركات من المؤشرات الاقتصادية الحالية والمقبلة.
وارتفعت أسعار السلع والخدمات للمستهلكين الأميركيين مع قيام الشركات تدريجياً بفرض رسوم جمركية أعلى على الواردات، باستثناء تكاليف الغذاء والطاقة المتقلبة، بنسبة 0.3% في مايو/ أيار الماضي، وهي أعلى نسبة ارتفاع في أربعة أشهر، وفقاً لاستطلاع أجرته "بلومبيرغ" لآراء الاقتصاديين.
وفي إبريل/ نيسان الماضي، ارتفع ما يُسمى بمؤشر أسعار المستهلك الأساسي بنسبة 0.2%. وسوف يقدم تقرير الأربعاء المقبل، إلى جانب بيانات أسعار المنتجين في اليوم التالي، لمسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي نظرة أخيرة على التضخم وتأثير التعرفات الجمركية المرتفعة قبل اجتماعهم للسياسة في 17 و18 يونيو/ حزيران الحالي.
وعلى الرغم من جهود الرئيس ترامب لإقناع محافظي البنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة بسرعة، فقد أشار رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول وزملاؤه إلى أن لديهم الوقت لتقييم تأثير السياسة التجارية على الاقتصاد والتضخم وسوق العمل. بالإضافة إلى بيانات التضخم، ستخضع بيانات طلبات إعانة البطالة الأولية الأسبوعية للتدقيق بحثاً عن أي مؤشرات على توتر سوق العمل؛ فقد أظهر تقرير، الخميس الماضي، ارتفاعاً في الطلبات خلال الأسبوع الأخير من مايو إلى أعلى مستوى له منذ أكتوبر/ تشرين الأول. ومع ذلك، أشار تقرير الوظائف الصادر الجمعة الماضي إلى أن نمو التوظيف يتباطأ، ولكنه لا يزال قوياً.
الشركات في الاقتصاد الأميركي
ومن المؤشرات السلبية إضافة إلى التضخم، تراجع مستويات السيولة النقدية لدى الشركات الرائدة، باستثناء نتائج الشركات الأكثر ثراءً نقداً. بين الشركات المدرجة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500 التي أعلنت نتائجها، انخفضت مستويات السيولة النقدية للربع الأخير بنسبة تقارب 1% مقارنةً بالأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2024. هذا وفقاً لتحليل "بلومبيرغ نيوز" الذي يركز على الشركات غير المالية التي تقل سيولتها النقدية عن 30 مليار دولار.
انخفضت احتياطيات المجموعة النقدية، التي تبلغ حالياً 1.14 تريليون دولار، بشكل عام منذ الربع الثالث من عام 2023، حين بلغت ذروتها عند 1.21 تريليون دولار. ورغم أن الشركات لا تزال تحقق أداءً جيداً بشكل عام، إلا أن تقلص مستويات السيولة النقدية قد يكون مؤشراً على تباطؤ الأعمال وانخفاض الأرباح.
ويمثل هذا مصدر قلق بالغ في الوقت الحالي، حيث من المحتمل أن تؤدي الحروب التجارية المتصاعدة إلى ارتفاع تكلفة المدخلات الأجنبية، وتراجع الأرباح، وزيادة التضخم. وقال نائب رئيس قسم الاستثمار في "ريتشارد بيرنشتاين أدفايزرز"، مايكل كونتوبولوس: "إنه وضعٌ محفوفٌ بالمخاطر. إذا انخفضت أرصدتك النقدية ووجدت نفسك مضطراً للتعامل مع ارتفاع التضخم والتقلبات، فستُثقل كاهلك الديون".
والاقتصاد الأميركي، الذي صمد أمام إنذارات الركود الكاذبة في عامي 2023 و2024، يدخل الآن صيفا آخر غير مريح. وتُحذّر الشركات من أن السياسات التجارية المتغيرة باستمرار تُعيق قدرتها على التخطيط للمستقبل، مما يؤدي إلى تجميد التوظيف والاستثمار.
تفاقمت حالة عدم اليقين السياسي في ظل اقتصاد يشهد تباطؤاً في نمو الوظائف وتباطؤاً في سوق الإسكان. وقال جون ستار، مالك شركة ألترا سورس، وهي شركة استيراد وتصنيع لتكنولوجيا معالجة اللحوم في مدينة كانساس سيتي بولاية ميسوري، إنه سيعمل على خفض عدد الموظفين، ولن ينفق المزيد من رأس المال، حتى تتضح له الأمور بشأن التعرفات الجمركية.
وأضاف لـ"وول ستريت جورنال": "سنكون حذرين للغاية بشأن أي إنفاق نقدي" في ظل حالة عدم اليقين بشأن التعرفات الجمركية". وتنتظر الشركة الموردين في أوروبا لإنهاء العمل على طلبات بقيمة 20 مليون دولار قدمتها قبل سريان الرسوم الجمركية بنسبة 10% في 9 إبريل. وهذا يعني أنه يواجه ضريبة بقيمة مليوني دولار إذا ظلت الرسوم الجمركية عند هذا المستوى.
قال ستار، مالك الشركة من الجيل الثالث: "كيف يُفترض بي أن أدفع هذا المبلغ؟ قد يُؤدي ذلك إلى استنزاف الأرباح لمدة عام كامل". يعتمد تعافي الاقتصاد الأميركي، بدلاً من انهياره، على كيفية تعامل المستهلك الأميركي مع أحدث التحديات، هذه المرة من رغبة ترامب في إعادة تنظيم العلاقات التجارية الأميركية وتقليل الاعتماد على السلع المستوردة.
على مدار أشهر، أعلن الرئيس عن زيادة كبيرة في الرسوم الجمركية، متردداً أحياناً بين التصعيد والحل المؤقت. يتفق خبراء الاقتصاد إلى حد كبير على أن انزلاق الاقتصاد الأميركي إلى الركود يستلزم تعثر المستهلك الأميركي.
احتمالات الركود
ويعتقد معظم خبراء الاقتصاد أن احتمالات الركود أعلى مما كانت عليه في بداية العام، ولكنها أقل مما كانت عليه في إبريل وأوائل مايو الماضيين، عندما زادت الرسوم الجمركية على الصين بنسبة 145%.
وافقت الولايات المتحدة على خفض زيادة الرسوم الجمركية إلى 30% الشهر الماضي. وتواجه معظم الدول الأخرى زيادات في الرسوم الجمركية بنسبة 10%، مع تعليق تطبيق الرسوم الجمركية المرتفعة على عشرات الدول حتى أوائل يوليو/ تموز المقبل. بالنسبة لسوق الإسكان، كان موسم مبيعات الربيع كارثياً، فوفقاً لشركة ريدفين للوساطة العقارية، تجاوز عدد البائعين المشترين في السوق الأميركية الآن بنحو 500 ألف.
وهذه أكبر فجوة منذ بدء إحصائها عام 2013. وسط توقعات بانخفاض أسعار المنازل بنسبة 1% هذا العام . قد تُعزز الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم، التي رفعها ترامب الأسبوع الماضي من 25% إلى 50%، إنتاجَ المعادن المحلي، بينما تُقلّص أرباح شركات صناعة السيارات، ومُصنّعي العلب، وشركات مثل شركة تيتان ستيل. وامتنعت بعض الشركات عن رفع الأسعار حالياً ريثما تستقر الرسوم الجمركية.
وقال توماس: "قالوا ببساطة: لا يمكننا المخاطرة بتدهور العلاقات مع عملائنا وموردينا بسبب سياسة قد لا تُطبق بعد شهرين". ويتوقع أن تضطر الشركات في نهاية المطاف إلى تمرير بعض الزيادات في التكاليف، لأنها ستكون قد استنفدت المخزونات التي حصلت عليها بأسعار ما قبل التعرفات الجمركية. وكل ذلك يأتي من دون الحديث عن مشروع قانون ترامب "الكبير والجميل" الذي يهدد بزيادة ديون الولايات المتحدة الهائلة.
ويهدد العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بعرقلة خططه الإنفاقية الحالية، ومن بينهم راند بول من كنتاكي، الذي انتقده بشدة. بعد مغادرته البيت الأبيض، وصف إيلون ماسك، أغنى رجل في العالم، مشروع القانون بأنه "عمل مقزز ومثير للاشمئزاز".
وتصاعدت المخاوف بعدما خفضت "موديز" التصنيف الائتماني لأميركا درجة واحدة، إلى "Aa1"، على غرار ما فعلته "ستاندرد أند بورز" و"فيتش". قالت "موديز" في بيان إن هذا الإجراء "يعكس الارتفاع المستمر منذ أكثر من عقد في نسبة الدين الحكومي ومدفوعات الفائدة إلى مستويات أعلى بكثير من الدول ذات التصنيف المماثل".
وأضافت: "فشلت الإدارات الأميركية المتعاقبة والكونغرس في التوصل إلى إجراءات تعكس الاتجاه التصاعدي للعجز المالي السنوي الكبير وتكاليف الفائدة المتزايدة".
أضافت: "على مدى العقد المقبل، نتوقع عجزاً أكبر مع ارتفاع الإنفاق على الاستحقاقات، بينما تبقى الإيرادات الحكومية مستقرةً إلى حد كبير". هناك تقنياً سقفٌ، يُعرف بسقف الدين، أو الحدّ الأقصى، لما يمكن للحكومة الفيدرالية اقتراضه. وقد وُضع أول حدٍّ عامٍّ من هذا القبيل عام 1939، عند 45 مليار دولار فقط، وفق "ذا غارديان".
