
يمن مونيتور/ من محمد عبدالقادر اليوسفي
في مدينة تعز اليمنية، يتحول مشهد الجامعة من فضاء للتعلم إلى ميدان يتداخل فيه صوت البارود مع صدى المحاضرات، حيث يضطر آلاف الطلاب إلى حمل السلاح صباحًا والعودة إلى دفاترهم مساءً، في واقع يعكس أزمة وطنية عميقة.
وتتفاقم الأزمة مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفقر، مما يدفع شريحة واسعة من الشباب إلى الانخراط في جبهات القتال على الساحل الغربي، في محاولة يائسة لتحصيل لقمة عيش أو ضمان حقهم في الاستمرار بالدراسة.
وقال مسؤولون محليون إن الدعم الحكومي للمؤسسات التعليمية ضعيف للغاية مقارنة بالمبالغ التي تُنفق على الجبهات، ما يزيد من معاناة الطلاب ويحول التعليم إلى تحدٍ وجودي يتوزع بين الرصاص والورقة الامتحانية.
وأكدت تقارير من منظمات محلية أن غياب الدولة وتراجع دور المانحين وتخليهم خلف تقاريرهم الرسمية، ترك الطلاب في مواجهة مباشرة مع واقع مرير، حيث تصبح الشهادة الجامعية حلمًا بعيد المنال، لا تضمن الحماية من الجوع ولا الانقاذ من أهوال الحرب.
في ظل هذه الظروف الصعبة، يجد الطالب اليمني نفسه محاصرًا بين خيارين قاسيين: التخلي عن حلم التعليم أو الانخراط في معارك لم يختارها، فقط لكسب بعض المال الذي يتيح له حق الجلوس في قاعة الامتحان، في رحلة يومية بين الدراسة والحرب لا تنتهي.
خندق بلا نوافذ
بين محاضرات علم النفس وتدريبات فك الألغام، يقف محمد مدهش، طالب في كلية الآداب بجامعة تعز، وهو يحمل بندقيته على كتفه، متجها نحو الساحل الغربي، حيث يتقاضى راتبًا شهريًا لا يتجاوز ألف ريال سعودي: “عدت للجامعة قبل الامتحانات بأيام، لكنني بالكاد فهمت شيئًا مما دار خلال الفصل”، يقول وهو ينظر إلى دفتره كمن ينظر إلى ماضٍ بات بعيد المنال.
وفي حديثه لـ”يمن مونيتور”، أوضح مدهش حجم المعاناة التي يعيشها قائلاً: “ما دفعني للذهاب إلى الجبهة لم يكن حبًا في القتال بل غياب البدائل، لا فرص عمل، ولا أمل في الحياة المدنية، ولا أفق أمام طالب فقير مثلي سوى حمل السلاح، لم أكن أفكر يومًا أنني سأقاتل لكن في اليمن لا يجتمع القلم والسيف إلا على جسد الطالب، إذا أردت أن تواصل طريق التعليم عليك أن تفتح للطريق نفسه دربًا بالسيف بالقوة، كي تتمكن يدك الأخرى من حمل القلم”.
يضيف: “في الجبهة الحياة شاقة والتنقل مرهق بشكل لا يُوصف، أحيانًا أضطر لترك الموقع رغم الخطر فقط لأداء اختبار مفاجئ في الجامعة، وفي مرة خُصم ثلث راتبي لأن الامتحان كان نهائيًا ولا يمكن تفويته”.
يوضح انه لا يحصل على دعم: “لا منحة، لا تخفيض، ولا حتى تفهُّم من الجامعة، ذات مرة طلبوا مني دفع 120 ألف ريال، وقلت لهم: هذه خيانة لطالب يقاتل من أجل أن يبقى على قيد التعليم والحياة”.
يتابع: “شعوري أثناء الامتحانات مضطرب، أذهب لأؤدي الاختبار وذهني لا يزال عالقًا بأصوات الرصاص من الجبهة، أحاول أن أذاكر، لكن الضغط النفسي والمعيشي ينهشني، شعور أنك مختلف عن زملائك يؤلمك أكثر من الجبهة نفسها”.
يختتم مدهش حديثه لـ “يمن مونيتور”، متأسفًا: “تجربتي تركت أثرًا مؤلمًا على علاقتي بالجامعة والطلاب، لا نشاطات، لا ملخصات، لا دعم من الزملاء إلا من قلة قليلة، تشعر بأنك شاذ عن المحيط الجامعي، وأن وجودك بينهم محض عبء عليهم، هذا أكثر وجعًا من المعركة”.
حكايات مماثلة تتكرر، حيث تحدث طالب في كلية الحقوق، رفض ذكر اسمه، عن تجربته لـ “يمن مونيتور”، قائلاً: “أغادر كل بداية فصل دراسي أعود فقط لأقدم الامتحانات، أحيانًا عندما اصل من الساحل مباشرة إلى الجامعة، أرتدي القميص الجامعي فوق الزي العسكري، ثم ادخل القاعة، أختبئ من زملائي احيانًا ومن نفسي”.
يضيف بابتسامة مرة: “ذات يوم اتيت فيه من موقع المواجهة إلى قاعة الامتحان مباشرة دون نوم أو مراجعة”. متسائلًا: كيف يمكن لعقلي أن يجيب عن أسئلة في القانون بينما كان يحفظ مواقع الألغام؟.
وبينما يتحدث طلاب آخرون عن شعورهم بالقهر والتحول إلى “مقاتلين موسميين”، يتجلى مشهد آخر، طالب في احد كليات جامعة تعز، سقط في إحدى الجبهات قبل أيام من امتحاناته هذا العام، لم يجد زملاؤه من يقدم عزاءهم سوى صورة باهتة له في أحد منشورات الفيسبوك، كتبوا فيه: “كان متفوق على الدفعة، مات وهو يحلم بالتخرج”.
دعم غائب كليًا
في بلد يفترض أن يتكفل فيه التعليم ببناء الإنسان، يتحوّل هذا المسار إلى عبء ثقيل على كاهل الطلاب الذين لا يجدون أي دعم من الدولة أو الجامعات أو حتى المنظمات الدولية.
يقول استاذ ومحاضر جامعي في جامعة تعز: “الطالب الفقير اليوم مهدد بالضياع، لا توجد منح داخلية، ولا برامج كفالة، ولا حتى تخفيضات حقيقية للرسوم الجامعية”. يتابع: “ما يحدث هو انهيار مكتمل لمنظومة الحماية التعليمية”.
يفتقر التعليم الجامعي في المناطق المحررة لأي مظلة دعم مؤسسية باستثناء مبادرات طوعية فردية غير قادرة على تلبية حتى الحد الأدنى من الحاجة، ويعزو خبراء هذا الغياب إلى ضعف الأداء الحكومي، وانشغال السلطات بالصراعات السياسية والميدانية على حساب البنية التحتية للمعرفة.
المؤلم أن هذا الغياب لا يقتصر على مؤسسات الداخل، بل يمتد إلى غياب شبه تام للبرامج الدولية الموجهة لدعم الطلبة، رغم أن الوضع الإنساني في اليمن يُصنف كواحد من أسوأ الأزمات التعليمية في العالم
تعليم بلا تمويل
تتحدث كثير من الدول المانحة عن دعم التعليم في اليمن، لكن أين يذهب هذا الدعم؟ ولماذا لا يصل إلى الطالب الجامعي؟ هذه الأسئلة لم تعد نظرية، بل تحولت إلى مطالب جماهيرية متكررة، خاصة في أوساط الطلاب.
تقول الطالبة ماريا سليم، من كلية الطب بجامعة تعز: “نسمع عن ملايين الدولارات لدعم التعليم، لكننا لم نرَ منها شيئًا، نحن نعيش على ساندويتش واحد في اليوم، ونعجز عن شراء ملزمة واحدة احيانًا”.
تحليل للبيانات الصادرة عن البنك الدولي في 2022 يظهر أن التمويل الموجه للتعليم العالي في اليمن تقلّص بنسبة تزيد عن 60% منذ عام 2018، بينما تُركّز معظم المشاريع على التعليم الأساسي والإغاثي الطارئ.
هذا التوجه، بحسب الخبير الاقتصادي نجم الدين احمد، “يخلق طبقة مثقفة مبتورة، حيث لا يُستثمر في الطالب الجامعي، رغم أنه من سيقود مستقبل البلاد”.
وتشير تقارير المنظمات الإنسانية إلى أن معظم التمويلات التعليمية تذهب إلى المشاريع المؤقتة، دون وجود رؤية مستدامة، مما يترك الفجوة تتسع عامًا بعد آخر، خاصة في أوساط طلاب الجامعات من مناطق نائية وفقيرة مثل تعز.
والنتيجة، جيل معلق بين حاجته للبقاء، ورغبته في العلم، في ظل غياب تمويل يحترم إنسانيته.
شباب بلا اتجاه
ما يحدث للطالب اليمني اليوم لا يمكن اعتباره مجرد ظاهرة عابرة، بل هو مسار خطير يعيد صياغة وعي الشباب ودورهم، يقول المهتم في قضايا الشباب، هشام القدسي: “لم يعد الشباب يرون في التعليم الجامعي قيمة حقيقية، بل بات الراتب العسكري أكثر إغراءً، وأكثر واقعية من أحلام الشهادات”.
مشيرًا، الى ان هذا التبدل في القيم يؤدي إلى تفكيك بطيء لثقافة التعليم، ويعمّق التهميش، خاصة في المناطق التي تُعد الأكثر تضررًا بالحرب. يتابع: “جيل اليوم بات يواجه سؤالًا وجوديًا: لماذا أدرس؟ ما الفائدة من شهادة جامعية لا تطعمني ولا تحميني؟”.
في المقابل، تحدث عميد عارف لـ “يمن مونيتور”، وهو أحد الطلاب الذين رفضوا الذهاب إلى الجبهات رغم العروض المغرية، وقال: “دفعت ثمن موقفي كثيرًا، خسرت زملاء كانوا يعيلونني، وتأخرت في دفع الرسوم، وأحيانًا كنت أذهب للامتحان دون أن أذاكر لأنني مشغول بتأمين الطعام لكنني لم أندم، لأني اخترت الحياة”.
مثل هذه الأصوات، وإن كانت قليلة إلا أنها تشكل شعلة مقاومة أخلاقية في وجه الانهيار، وهي من يجب أن تحظى بالرعاية والدعم قبل أن تنطفئ تمامًا.
أسئلة دون إجابة
خلال حديث اجرته منصة “يمن مونيتور”، مع العديد من طلاب جامعات تعز، تطرقوا فيه لاسئلة مُلحة، ابرزها: كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ من المسؤول عن تحول الجامعة إلى محطة استراحة بين معركتين؟ ما مصير بلد تفرغه الحرب من طلابه، وتحول شهاداتهم إلى أوراق تافهة أمام سلطة السلاح؟
هذه الأسئلة لا يجب أن تبقى حبيسة التقارير أو صفحات التواصل الاجتماعي، بل يجب أن تُطرح في صلب الحوار الوطني، وفي قلب أجندة المانحين والمنظمات الدولية، وفي كل مكتب حكومي معني بالتعليم أو الشباب.
فالطالب اليمني، الذي يجلس بين رصاص الجبهة وأوراق الامتحان لا يبحث عن بطولة، بل عن حياة كريمة، وعن وطن يحمي حلمه لا يبتلعه.
The post رواتب على الجبهة وامتحانات على العَجل…طلاب جامعات تعز بين رصاص الساحل وأوراق الاختبار appeared first on يمن مونيتور.