
تتفشى الأورام السرطانية في أجساد مرضى قطاع غزة الذين لا يتمتعون بأدنى درجات مقاومة المرض في غياب العلاج والأدوية، ونقص الغذاء، ووسط أوضاع مأساوية نتيجة انهيار شبه كامل للقطاع الصحي.
على أحد الأسرّة بقسم الأورام في "مستشفى الحلو" بمدينة غزة، كانت هدى المظلوم (57 سنة) تتلقى جرعة الكيماوي الرابعة، بعد اكتشاف إصابتها في مطلع العام الحالي بورم سرطاني في الغدة اللمفاوية، وقد أجرى لها الأطباء عملية جراحية لإزالة الورم، ثم حددوا لها جرعات الكيماوي، وهي تبيت بالمشفى لمدة أربعة أيام قبل تلقي الجرعة التي تستغرق 24 ساعة، لإجراء الفحوص والتحاليل، وقبل الجرعة تحصل على أربع وحدات محاليل لتهيئة جسدها.
تقول المظلوم لـ"العربي الجديد"، إن "عدم وجود الغذاء المناسب يفاقم حالتي الصحية، فبشق الأنفس أستطيع إيجاد كأس لبن، وبصعوبة أوفر عصيراً في ظل سياسة تجويع إسرائيلية أدت إلى نفاد كل السلع من الأسواق نتيجة إغلاق المعابر منذ 2 مارس/ أذار الماضي، ما انعكس بشكل كبير على المرضى. نفدت آخر أقراص علاج الغدة الدرقية المقرر أن أداوم عليها، وبحثت ابنتي عن شريط في كافة المشافي والصيدليات، لكنها لم تجد، وبسبب ضعف التغذية يضعف جسدي، فالعلاج الكيماوي يحرق الجسم، ويجب أن تقابله تغذية جيدة مستمرة، لكن كل ما أستطيع تناوله اليوم هو العدس أو الزعتر، وإيجاد حبة خيار أو بندورة صعب".
في غرفة أخرى مكتظة، يرقد صبري عبد النبي (53 سنة)، وقد اكتشف إصابته بسرطان الأحبال الصوتية في يناير/ كانون الثاني الماضي، وكان يعاني منذ سنوات من آلام في الأحبال الصوتية من دون اكتشاف المرض. حالياً، يمكنه التنفس بصعوبة، وبالكاد يسمع صوته أثناء الحديث. يحمل علبة حليب شارفت على النفاد، كي تساعده على تعويض ضعف التغذية. يقول ابنه المرافق لـ"العربي الجديد": "ضعف التغذية يؤثر على صحة أبي، ولا يوجد مدعمات مناعة ولا فيتامينات، وبالتالي يصعب عليه مقاومة السرطان. الحليب بديل عن الغذاء، لكننا لا نجده دائماً، وبصعوبة يوفره المشفى".
قبل الحرب، كان عبد النبي يراجع طبيباً بمستشفى الصداقة التركي التخصصي، وكانت تخصص له غرفة للمبيت بمفرده، بينما اليوم يبيت في غرفة مكتظة، ويؤكد ابنه أن العديد من أصناف الدواء غير متوفرة، كحبوب منع النزيف، إذ يتقيأ دماً بشكل مستمر. ويضيف: "نتيجة نقص الغذاء أصبح أبي نحيفاً للغاية، وبات يتعب من جرعة الكيماوي الخفيفة، ولا يستطيع تحمل جرعات الكيماوي الثقيلة. وهو يمكث منذ شهر بالمشفى، ولم يستفد شيئاً، وتقدمنا بتحويلة علاجية عاجلة للسفر قبل عدة أشهر، لكن لم يتم السماح له بالسفر بعد".
بصعوبة، استطاعت عبير جعرور (43 سنة)، وهي مريضة بسرطان الثدي، إيجاد سرير في قسم يعج بكافة الأمراض، بعدما ساءت حالتها الصحية نتيجة التهابات بالرئة، وحينها قرر الطبيب مبيتها. تقول: "انتهيت من جلسات العلاج الكيماوي للمرحلتين الأولى والثانية، والآن ينبغي السفر لاستكمال العلاج الإشعاعي خارج قطاع غزة. قدمت تحويلة للعلاج بالخارج، لكن لم يتم السماح لي بالسفر حتى الآن".
وتضيف لـ"العربي الجديد": "كل مرضى السرطان يعانون من قلة العلاج، وأحيانا يعطيني الطبيب علاجاً بديلاً، ويكون للأسف غير فعال، وأحتاج أخذ كمية مضاعفة من العلاج البديل، إضافة إلى أزمة غياب الفيتامينات". وبشكل أسبوعي تزور جعرور المشفى، وتؤرقها وسائل المواصلات غير المريحة، وهي تحرص على الوصول مبكراً كي تتمكن من مراجعة الطبيب، فالدور طويل، والمرضى تقدر أعدادهم بنحو 50 في كل جلسة، بينما عدم توفر العلاج الإشعاعي يفاقم حالتها.
وتتزايد التكهنات حول وجود ارتباط بين زيادة معدلات الإصابة بالسرطان والإشعاعات المنبعثة عن الصواريخ التي ألقاها جيش الاحتلال على قطاع غزة.
أصيب أشرف صباح (51 سنة) بالمرض قبل شهر، ويعيش بأنبوب تنفس يتصل بأنفه على مدار 24 ساعة، وقد تغير حاله عما كان عليه قبل الإصابة، فبعد إصابته بجلطة في القدم، اكتشف الأطباء إصابته بسرطان القولون، علما أنه مريض قولون تقرحي منذ ما قبل الحرب.
يحكي صباح لـ"العربي الجديد" بصوت لاهث: "الحرب لها علاقة مباشرة بإصابتي، فكثيراً ما تصلنا الإشعاعات، والسبب الآخر أنني كمريض قولون، وقد عانيت من انقطاع علاج القولون الوقائي طويلاً، وربما هذا أيضا هيأ لانتشار السرطان. نتلقى الرعاية بما هو متاح من إمكانيات، لكن للأسف الوضع الصحي في غزة صعب، وهناك مراحل قادمة تتطلب علاجاً كيماوياً، ومن ثم علاجا إشعاعيا، ولا أعرف كيف ستكون الأمور عندها".
أما الفلسطينية أم محمد النملة (65 سنة) فقد أصيبت بسرطان الرئة في عام 2007، وجرى استئصال جزء من الرئة، ثم أصيبت بسرطان الثدي في عام 2012، وجرى استئصاله، وبعدها بعامين أصيبت بسرطان الرحم، وقامت أيضاً باستئصاله، ورغم إتمام علاجها الكيماوي قبل الحرب، إلا أن حالتها تدهورت بعد الحرب بسبب غياب المتابعة والرعاية، ونتيجة سوء التغذية، وقبل أسبوع أصابتها جلطة، وكان الأطباء يشكون في عودة المرض.
تقول النملة، وهي نازحة إلى منطقة المواصي بخانيونس، لـ "العربي الجديد": "أظهرت الصورة المقطعية أن المرض لم يعد، وأن ما حدث هو جلطة فقط. خلال الحرب نزحت إلى مخيم النصيرات للحصول على العلاج الهرموني، وأثرت الحرب على حالتي، وأشعر بارتجافة مستمرة، خاصة أنني أتبع نظاما علاجيا هرمونيا شهريا، ولا يزال متوفرا في غزة. أعاني من مضاعفات مستمرة بالرئة، وضيق تنفس، والتهابات تؤدي إلى المكوث بالمشفى لفترة كل شهر".
ووفق دائرة نظم المعلومات الحكومية، فإن عدد مرضى السرطان في قطاع غزة يبلغ 11 ألف مريض، من بينهم 2900 بانتظار السفر، ومنذ بداية الحرب، فقد العديد من مرضى السرطان حياتهم نتيجة الظروف القاسية وغياب العلاج، إضافة إلى استشهاد نحو 20 مريضاً بالقصف الإسرائيلي.
ويقدر المدير الطبي لمركز غزة للسرطان، الطبيب محمد أبو ندى، أن "هناك حالتي وفاة يومية بين مرضى السرطان، بمعدل 1300 وفاة منذ بداية الحرب، والأسباب متعددة، ومن بينها ظروف الحرب الصعبة، وعلى رأسها النزوح المتكرر، وعدم وجود طعام جيد لبناء المناعة، وعدم وجود الأدوية الداعمة مثل الكالسيوم والفيتامينات، وصعوبة الحصول على العلاج الكيماوي، ما يؤدي إلى تفشي المرض في الجسم".
ويوضح أبو ندى لـ"العربي الجديد" أن "مرضى السرطان يعيشون أوضاعاً كارثية منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وتفاقمت المعاناة بعد تدمير البنية التحتية والمنظومة الصحية، وعلى رأسها مستشفى الصداقة التركي المتخصص بالأورام، فضلاً عن تدمير 34 مشفى من أصل 38، وإخراج نحو 80 مركزاً صحياً عن الخدمة، ما أدى إلى نقص حاد بالرعاية الصحية. قبل ثلاثة أسابيع، كان المشفى الأوروبي بخانيونس الملاذ الأخير لمرضى السرطان، وبعد قصف الاحتلال محيطه، تضررت أجزاء منه، وتضررت أجهزة طبية، فاضطررنا إلى النزوح إلى مشفى ناصر، حيث الازدحام شديد، وبالتالي انقطعنا عن تقديم العلاج الكيماوي منذ ثلاثة أسابيع".
ويتابع: "غياب العلاج أدى إلى تدهور سريع في حالة المرضى، وحالياً توقفت العلاجات الكيماوية والإشعاعية، وسفر المرضى للعلاج بالخارج متوقف نتيجة إغلاق معبر رفح، ما يمنع المرضى من تلقي العلاج. كان متاحاً لبعض المرضى العلاج في المشفى الأوروبي وفي مجمع ناصر، لكن المستلزمات الموجودة محدودة، وهناك نقص حاد في كل شيء، ما يجعل تقديم الرعاية اللازمة غير ممكن".
يضيف الطبيب الفلسطيني: "كان مشفى الصداقة التركي هو المركز الوحيد المتخصص في تقديم العلاج الكيماوي للسرطان في قطاع غزة، وبعد تدمير جزء منه وقطع الكهرباء عنه في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، توقفت خدماته تماماً. حينها بدأنا رحلة انتقال. انتقلنا من مشفى الصداقة إلى مشفى شهداء الأقصى بالمحافظة الوسطى، ثم إلى مجمع ناصر بخانيونس، ثم مشفى أبو يوسف النجار ومركز الزهراء في رفح، وعدنا لاحقاً إلى مجمع ناصر، قبل الانتقال من جديد إلى المشفى الأوروبي، ثم عدنا أخيراً إلى مجمع ناصر. خلال تلك الرحلة الطويلة فقدنا الكثير من المعدات والمستهلكات والأدوية، وفي كل مرة كنا لا نستطيع أخذ كل معداتنا وأسّرتنا، ما أثر على إمكانيات تقديم العلاج للمرضى".

Related News

