
لم تنجُ مجلة إبداع الأدبية في مصر من المناخ المتردي لحرية الفكر والتعبير، فكان على فريق تحريرها أن يدفع ثمناً باهظاً لنشر مقالٍ أثار اعتراضات في الأوساط السياسية والدينية، في بلدٍ تشهد فيه الحريات تراجعاً متسارعاً منذ عام 2013، وتحولت فيه بيئة العمل الثقافي إلى فضاء يسوده الحذر والرقابة الذاتية.
فوجئ الوسط الأدبي والثقافي المصري قبل أيام بإعلان استقالة جماعية لأعضاء فريق تحرير "إبداع"، المجلة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة. جاءت الاستقالات، وأبرزها لرئيس التحرير الشاعر والأديب إبراهيم داود (كلّف برئاسة التحرير مكانه الشاعر أحمد الشهاوي)، تباعاً عبر حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، مصحوبة بكلمات فخر وامتنان للفترة التي قضوها في خدمة الحركة الأدبية المصرية، من خلال المجلة العريقة.
رئيس التحرير، إبراهيم داود، كتب: "من التجارب التي أعتز بها في حياتي هي رئاستي لتحرير مجلة إبداع، لأنني حاولت المحافظة على ما أنجزه رؤساء التحرير الثلاثة السابقون الكبار (الدكتور عبد القادر القط، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد المنسي قنديل). اجتهدت مع زملائي للتأكيد على قوة وحيوية الثقافة المصرية وتطلعاتها، لم نبحث عن غنائم ولا نفوذ، فقط قمنا بما نعتقد أنه الصواب، محبة في الكتابة والكتاب، ليس في مصر فقط، بل في الوطن العربي والعالم كله. لم نوفق أحياناً، لكن كان هدفنا الدائم إشاعة المناخ الإبداعي قدر استطاعتنا... ولأسباب خاصة، قررت أن أعتذر للصديق العزيز الدكتور أحمد بهي الدين، رئيس هيئة الكتاب، وأترك له مهمة اختيار رئيس تحرير جديد يقود الإصدار الخامس من مجلتنا العريقة".
لم تكد كلمات داود تُنشر، حتى تكشفت أسباب الاستقالات. فقد أفادت شهادات من كتّاب ومثقفين بأن الفريق تعرض لضغوط دفعتهم للاستقالة، بعد اعتراضات رسمية على مقالٍ تناول آل البيت نُشر في عدد مايو/أيار الماضي من المجلة.
الناقد الأدبي البارز جمال الطيب علّق على الواقعة قائلاً: "لا يُعقل أن يكون مقال واحد، في عدد يضم مواد رصينة من شعر وقصة ودراسات وقراءات، سبباً في هجوم ضارٍ غير مبرر، نجم عنه استقالة رئيس التحرير الكاتب الصحافي النزيه والشاعر المبدع إبراهيم داود، ونائب رئيس التحرير الكاتب والقاص هشام أصلان، ومدير التحرير الكاتب الصحافي يحيى وجدي. أسفت لهذا الخبر الحزين، لافتقادنا كتّاباً مخلصين اجتهدوا في أعمالهم ونجحوا في وضع المجلة في مكانة راقية. كل التعازي والمواساة لمحبي ومتابعي الحركة الثقافية، الذين أدّعي أنني أحد المنتمين إليهم".
تلك الرواية، المتداولة بكثافة في أوساط المهتمين بالشأن الثقافي المصري، أكدها مقربون من فريق تحرير المجلة.
تضييق متصاعد على الحريات
ما حدث لمجلة إبداع هو انعكاس مباشر للمناخ الخانق الذي باتت تعيشه مصر على صعيد حرية التعبير، بحسب تقارير منظمات حقوقية دولية ومصرية.
تشير هذه التقارير إلى ممارسات ممنهجة لتقييد حرية التعبير، على رأسها "حملات الاعتقال الواسعة"، التي طاولت آلاف النشطاء والصحافيين والمدونين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وفق ما وثّقته منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، بتهم فضفاضة مثل "نشر أخبار كاذبة"، أو "الانتماء لجماعة إرهابية".
وتُستخدم قوانين مكافحة الإرهاب والجرائم الإلكترونية -التي وُصفت بأنها غامضة ومفتوحة التفسير- لقمع النقد والمعارضة، إذ تتيح هذه القوانين الحبس الاحتياطي الطويل، وتجريم التعبير السلمي عن الرأي، مما يعزز مناخ الخوف والرقابة الذاتية.
ومن أبرز مظاهر التضييق أيضاً، حجب المواقع الإلكترونية، فقد شهدت السنوات الأخيرة حجب مئات المواقع الإخبارية والحقوقية ومنصات التواصل، ما يقوّض إمكانية الوصول إلى مصادر مستقلة ومتنوعة للمعلومة. وتشير دراسات متخصصة في الحريات الرقمية إلى أن مصر باتت من الدول الرائدة في حجب المحتوى الإلكتروني.
أما الصحافيون، فيواجهون ضغوطاً جمّة، من بينها الاعتقال، والمحاكمات الجائرة، والمنع من النشر، أو الطرد من العمل. وتشير تقارير نقابة الصحافيين المصرية، رغم القيود المفروضة عليها، إلى أن العشرات من الصحافيين يقبعون في السجون بسبب عملهم، بينما تتراجع باستمرار مساحات النقد والتحقيق الصحافي.
دراسات أكاديمية ومراكز أبحاث غربية وعربية توصلت إلى أن المناخ العام في مصر لم يعد ملائماً لحرية التعبير، مشيرة إلى تراجع البلاد في مؤشرات حرية الصحافة والإنترنت، واتجاه الخطاب العام نحو التجانس والانغلاق على حساب التعددية.
مجلة إبداع: إرث ثقافي
مجلة إبداع ليست مجرد مطبوعة دورية، بل تُعد من أعرق المجلات الثقافية في مصر والعالم العربي. تأسست عام 1983 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ولعبت منذ نشأتها دوراً محورياً في المشهد الأدبي، وقدّمت منبراً للأقلام المتميزة من مصر والعالم العربي.
تناوب على رئاسة تحريرها كبار الأدباء، ما أكسبها مكانة مرموقة، ولم تكن المجلة فقط حاوية للنصوص، بل شاهداً على التحولات الثقافية والفنية في مصر والمنطقة.

Related News
