
لم يكن المغني الأميركي إلفيس بريسلي (1935- 1977) شخصية عادية، ولا حتى مجرد اسم مؤثر في تاريخ موسيقى الروك أند رول، لكنه كان أحد أهم الظواهر الفنية والثقافية في القرن العشرين، باعتباره صاحب صوت استطاع تغيير مفهوم الأداء الموسيقي في الولايات المتحدة الأميركية والعالم، وأيضاً باعتباره أيقونة في تقديم تجربة العودة إلى النجاح بعد التراجع والفشل، والانبعاث من جديد بعد سنوات من الضياع في أعمال سينمائية لم تشكل يوماً أي قيمة مضافة في مسيرته الفنية.
قصة العودة الأسطورية كانت موضوع الفيلم الوثائقي الذي أنتجته منصة نتفليكس تحت عنوان "عودة الملك إلفيس بريسلي: قصة فشل ونجاح"، وهو فيلم لا يكتفي باستعراض سيرة نجم فقد بريقه ثم استعاد مكانته، ولكنه يتأمل بعمق تحليلي وصناعة بصرية دقيقة، كيف استعادت الموسيقى صوتها من خلال رجل واحد، وكيف صعد "الملك" من جديد وهو ليس بحوزته إلا صوته وحقيقته.
يلتقط الوثائقي هذه اللحظة بدقة، كاشفاً عن المسافة المتزايدة بين إلفيس بريسلي الحقيقي وصورته المتداولة، فهو الفنان الذي بدأ متمرداً موسيقياً يمزج بين البلوز والغوسبل والكانتري، ثم تحول إلى مجرد نجم سينمائي بلا روح، فطمست هويته وسط الضجيج بعد أن استطاعت سنوات الستينيات الأولى أن تلقي به في دوامة من الأعمال السينمائية المتكررة تجارياً، فأفرغت إبداعه من جوهره.
لقد كان أسيراً لصورة رسمها له مدير أعماله، الذي دفع به نحو استثمار سطحي بعيد عن الجذور الموسيقية التي شكّلت بدايته. إلى أن جاءت نهاية عام 1968، فكان الحفل التاريخي الذي أعاد إلفيس بريسلي من تحت الرماد، وأجلسه مرة أخرى على عرشه الغنائي، بعد أن استطاع في هذا الحفل أن يقدم غناء يستعيد به ذاته، وأن يتذكر الرجل الذي دخل الغناء لأنه لم يجد في العالم وسيلة للتعبير أصدق من الموسيقى.
يحاول الفيلم الوثائقي وضع المشاهد في خلفيات العرض التاريخي، وليفهم الفرق الكبير بين ما كان يُسجَّل في استوديوهات الإنتاج، وبين ما قدّمه إلفيس بريسلي في تلك الليلة. لقد أتاح الأداء المباشر والصادق الذي قدمه قدراً هائلاً من التحرّر، والافتكاك من قوالب الصناعة الموسيقية.. ارتجل، وضحك، أخطأ وأعاد، وغنى لنفسه قبل جمهوره.
تقنياً، يمتلك بريسلي صوتاً استثنائياً، يمتد على أكثر من أوكتافين، لكنه لا يعتمد على مدى الصوت فقط، بل على الطريقة التي يستخدم فيها التسريع التدريجي في بعض المقاطع لتوليد التوتر العاطفي. مثلا، في أغنية If I Can Dream، التي خُتم بها العرض، يغني على مقام مينوري بتدرج تصاعدي مذهل، يعكس التوق العميق للحلم والتغيير في ظل اضطرابات الستينيات السياسية والعرقية. لم تكن الأغنية بهذا الأداء مجرد رسالة أمل، بل كانت احتجاجاً ناعماً، بأداء يلامس الوجدان.
أما في أغنية Heartbreak Hotel، فنسمع البلوز الكلاسيكي محمولاً على إيقاع مشدود، مزين بتقنية الإزاحة الإيقاعية (Syncopation) التي تجعل الصمت جزءاً من اللحن. يستخدم بريسلي خلال الأغنية جُملًا موسيقية قصيرة تتكرر بإيقاع يشبه الأنين البشري. بينما تستحضر بنية Trying to Get to You اللحنية عمق الجذور الأفريقية للموسيقى الأميركية.
الأداء هنا ليس محاكاة، بل انتماء صادق إلى إرث موسيقي ظل إلفيس بريسلي مخلصاً له رغم كل محاولات فصله عن جذوره. ومن الملاحظ أن الرجل لم يقدم في هذا الحفل التاريخي إلا أغانيه القديمة الشهيرة، التي تركت آثاراً عميقة في وجدان عشرات الملايين من جمهوره حول العالم.
يركز الفيلم الوثائقي على ارتباط بريسلي بموسيقى الغوسبل، ليس بوصفها نوعاً موسيقياً يؤديه عرضاً، بل كونه هوية روحية. والغوسبل هي نوع من الموسيقى الدينية المسيحية، نشأت في الولايات المتحدة، وتُستخدم غالباً في الكنائس، خصوصاً في التجمعات البروتستانتية، وتعرف بقدرتها الكبيرة على نقل مشاعر الأمل والخلاص والفرح وسط المعاناة. ومن أهم خصائصها الصوت البشري القوي، والكورال الجماعي، والإيقاع الحماسي، والتبادل بين المغني والكورال، والتكرار الذي يؤكد المعنى الروحي.
نشأ بريسلي على صوت الكنيسة، وتشبّع داخله بهذا الإيقاع الإنجيلي الذي يتعالى على الكلمات، ليصل إلى التجربة الروحية نفسها. وفي أحد مشاهد الفيلم، يغني مقطعاً دينياً مغمض العينين، كأنه يصلّي، وبأداء لا يهدف إلى استجداء الإعجاب، بل إلى استعادة لحظة صفاء. وكأن ما فقده في سنوات النجومية، وجده مجدّداً في صوت يرتّل أكثر مما يُغني.
يسجل الفيلم حضور عدد من الأصوات الموسيقية والنقدية التي قدمت إضاءات على قيمة هذه العودة، باعتبارها لحظة موسيقية مفصلية. ويدلي بروس سبرينغستين، أحد أبرز المعجبين ببريسلي خلال شهادته في الفيلم: "في تلك اللحظة، كان إلفيس يغني كأنّ العالم سينتهي غداً. لقد غنّى من أجل الحياة، ليس من أجل الكاميرا". تلك العفوية، الصادقة المتجردة من الكمال، كانت هي ما جعل الأداء حياً أكثر من أي استعراض مصقول. ويضيف أن ما فعله بريسلي في حفل 1968 أعاد تعريف مفهوم "العرض الحي".
تقول بريسيلا بريسلي، زوجة إلفيس السابقة وصاحبة الدور الأبرز في الحفاظ على إرثه الفني: "رأيته هناك كما لم أره من قبل. لم يكن يغني، بل يتنفس من جديد". كما يبرز الفيلم رأي الموسيقي الأميركي بيللي كورغان الذي يؤكد أن بريسلي لم يكن أبداً مجرد مؤدّ، بل فنان صادق لا يحتمل الاصطناع. يرى كورغان أن ما قدّمه في ذلك العرض لم يكن يستهدف الإعجاب، بل كان أشبه بمناجاة.
بعد هذا العرض، لم تعد عودته مجرد خبر، بل أصبحت مرجعاً لأجيال لاحقة من الفنانين الذين بحثوا عن الصدق في زمن الإنتاج السريع: نيل يونغ، وجوني كاش، وحتى مايكل جاكسون، تأثروا بهذا النموذج، إذ لا يكفي أن تمتلك صوتاً جميلاً، بل يجب أن تمتلك ما يُقال.
رغم أن الوثائقي نجح في تقديم صورة صادقة وقوية لعودة بريسلي، إلا أن بعض النقاد يرون أنه لم يذهب بعيداً في طرح الأسئلة الأصعب. لم يُناقش مثلاً بما يكفي علاقته بمحيطه العرقي، أو موقفه من تحولات السياسة في بلاده، ولا أثيرت جوانب أزمته النفسية التي سبق أن تناولتها أفلام وسير سابقة.
لكن هذا النقد يصدر عن المهتمين بالسياق والأحداث المحيطة ربما بدرجة أكبر من العمل الفني نفسه، وهو ما اختلف معه صناع الفيلم، الذين مالوا إلى رؤية فنية صرفة، فالمخرج جيسون هايهر، أراد أن يركز على الموسيقى، وأن يسلط الضوء على لحظة الإبداع لا على هوامشه. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الخلفية السياسية والاجتماعية لعام 1968 لم تكن لتنفصل عن الأداء، خصوصاً أن بريسلي اختار أغنية تدعو إلى الحلم والوحدة في زمن الانقسام.
بين عامي 1960 و1968، ركّز بريسلي على التمثيل في أفلام هوليوود التجارية، المفرطة في الرداءة وضعف الحبكة والاستسهال الموسيقي. ضعفت صورته المستقرة باعتباره رمزاً موسيقياً ثائراً ومجدّداً. في هذه المرحلة، كان المشهد الموسيقي يتغير بسرعة مع بروز فرق مثل "ذا بيتلز" و"ذا رولينغ ستونز"، وتطور موسيقى الروك.
بحلول منتصف الستينيات، بدأ نجم بريسلي بالأفول، وبات بحاجة إلى مشروع يعيد له بريقه الفني. وهنا جاء الاقتراح من مدير أعماله كولونيل توم باركر، لتقديم عرض تلفزيوني خاص بعيد الميلاد عام 1968 على قناة أن بي سي، لكن ما حدث تجاوز أن يكون مجرد احتفال موسمي، وتحول إلى أحد أكبر الوقائع الموسيقية في التاريخ المعاصر.
خطط منظمو الحفل لكل شيء، قرروا أن تكون مدة الحدث ساعة واحدة، ثم قسموا الساعة إلى أربع وقائع رئيسية: الأولى، الجلوس، وتعني أن يجلس بريسلي على مسرح صغير محاطاً بجمهور محدود، مرتدياً زياً جلدياً أسود، ثم يغني ويعزف مع فرقته القديمة أغانيه الكلاسيكية بأسلوب مباشر وحيوي، ما تسبب في إعادة الاتصال بينه وبين جمهوره فوراً.
والثاني، الأداء المسرحي الاستعراضي، إذ يؤدي بريسلي عدة أغان على خشبة المسرح أمام جمهور أكبر، ويظهر حضوره القوي وصوته القوي، مبرزاً تطوره مغنياً محترفاً. الثالث، المقاطع الدرامية والغنائية المصورة، فقد تخللت الحفل فقرات غنائية جرى إخراجها بأسلوب سينمائي، مثل أداء أغنية Guitar Man، التي صوّرت رحلة بريسلي الفنية من بداياته إلى ذروة مجده.
وأخيراً، الختام الأسطوري بأداء أغنيته الأشهر If I Can Dream التي كُتبت خصيصاً تفاعلاً مع حادث اغتيال مارتن لوثر كينغ، وتحمل رسالة أمل ودعوة إلى الوحدة. مثّل أداء الأغنية وتبديل الملابس الجلدية السوداء بأخرى بيضاء ذروة اللحظات العاطفية في العرض، الذي يعتبره كثير من المؤرخين الموسيقيين أحد أعظم العروض التلفزيونية في التاريخ الأميركي، بعد أن وضع في فكرة الانبعاث الفني معنى الإمكان.

Related News


